ضجّ الشارع التونسي أخيراً بقضيّة الفتاة القاصر التي أذنت المحكمة بزواجها من شاب بالغ اعتدى عليها وتسبّب في حملها. وندّد المحتجّون بالفصل الذي يحكم مثل هذه القضايا، مطالبين بتعديله.
الصمت على تزويج فتاة قاصر من مغتصبها، جريمة أكبر. هذا ما يرفعه تونسيون اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع، تعبيراً عن غضبهم إزاء قرار قضائي بتزويج طفلة في الثالثة عشرة من عمرها من الرجل الذي اعتدى عليها.
وفي حين راح رجال السياسة يتفرّجون على ما يحصل، عمد المجتمع المدني إلى التحرّك والضغط، ليس فقط بهدف وقف قرار الزواج، وإنما لإلغاء الفصل 227 مكرّر من المجلة الجزائية التونسية كذلك.
في منطقة الكاف في شمال غرب البلاد، قضت المحكمة بتزويج طفلة تبلغ من العمر 13 عاماً من شاب عشريني اعتدى عليها. ونظراً إلى حملها منه وفق مقتضيات الفصل 227 مكرّر الذي يتيح وقف التتبع بحقّ من يواقع قاصر برضاها، إذا وافق القاضي والوليّ على تزويجها منه، أسقطت عقوبة السجن لمدّة ست سنوات. وإزاء ما لاقاه الحكم القضائي من استهجان وتنديد من الرأي العام التونسي، أعلنت وزارة العدل قبل يومَين أنّ النيابة العمومية أوقفت تنفيذ قرار الزواج، فيما أعلنت وزارة المرأة والأسرة والطفولة عن متابعتها للحالة والإحاطة النفسية بها.
المحكمة أكّدت على أنّ الأمر لا يتعلق بقضية اغتصاب وأنّ القانون التونسي لا يجيز تزويج المغتصبة من المعتدي عليها كما هو الحال في قوانين عربية أخرى، إلا أنّ التونسيين عبّروا عن رفضهم الإبقاء على الفصل المذكور وقد رأوا أنّه يخدم عقلية ذكورية رجعية تعمد إلى تغطية جرائم الشرف عبر تزويج القاصرات وحرمانهنّ من طفولتهنّ بدلاً من تقديم الإحاطة والرعاية النفسية والاجتماعية إليهنّ. بالنسبة إليهم، هذا يتعارض وأحكام مجلة حماية الطفل التي تراعي دوماً المصلحة الفضلى له. أمّا خبراء قانونيون ومتخصصون في علم الاجتماع، فيقولون بضرورة أن يجرّم القانون مواقعة القاصرات وإن من دون عنف وبرضاهنّ، ويحمي الفتاة المجني عليها كذلك عبر توفير مناخ أسريّ يقيها الفرز الاجتماعي ويقي ولدها من الوصم الاجتماعي كابن زنا.
يبدو الأمر شبه محسوم، إذ أحالت وزارة المرأة والأسرة والطفولة في يوليو/ تموز الماضي مشروع قانون متعلق بمناهضة كل أشكال العنف ضد المرأة، تضمّن تنقيحاً للفصل 227 مكرّر المذكور عبر حذف المقتضيات المتعلقة بتزويج القاصرات من الفاعل ووقف التتبع، فيما يرفع العقوبات إذا كانت الفتاة دون الخامسة عشرة. ويدفع المجتمع المدني اليوم في اتجاه التسريع في مناقشة المشروع وإقراره من قبل البرلمان في إطار توفير الحماية القانونية للمرأة.
يرى المحامي والناشط الحقوقي غازي مرابط، في حديث إلى "العربي الجديد"، أنّ "المجتمع التونسي ومنظماته هو الذي يدفع اليوم نحو فتح حوار حول الفصل المذكور ويعوّض بذلك الطبقة السياسية. كذلك، فإنّ الحراك الذي ما زال في بدايته دفع إلى تحرّك النيابة العمومية ضدّ القرار". ويشير إلى أنّ "النخبة السياسية والبرلمان التونسي يضمّان في صفوفهما حقوقيّين وناشطين اجتماعيين سابقين. لكنّهم وبدلاً من قيادة عجلة التغيير في اتجاه ثورة قانونية حقوقية، ساهم التزامهم الحزبي في تقييدهم والتقليص من قدرتهم على الضغط".
يضيف مرابط أنّ "العمل التشريعي تحت ضغط الحراك المجتمعي، يعدّ من أبرز علامات الديمقراطية، بالإضافة إلى قدرة هذا الحراك على مواكبة التغيرات المجتمعية والدفع نحو تقنينها بنجاعة أكبر من الطبقة السياسية. وقد أثبتت تجارب مقارنة فاعلية المجتمع المدني في فرض تعديلات قانونية لازمة، من بينها التجربة في المغرب خلال السنتين الماضيتين ونجاحه في إلغاء المادة المتعلقة بتزويج القاصر من مغتصبها".
يمكن القول إنّ تغيير المنظومة التشريعية في تونس لم يعد مقتصراً على إرادة النخبة السياسية والثقافية فحسب، إذ كشفت السنوات الأخيرة أنّ ضغط الشارع الذي يؤطّره غالباً المجتمع المدني، أصبح قائداً للتغيير في المنظومة الحقوقية والقانونية. بذلك، يقلب معادلة ظلت قائمة على امتداد خمسين سنة.
ويُعدّ الحراك المجتمعي في قضية قانون المخدرات أحد أبرز الأمثلة، إذ بلغ أوجه من أجل تعديل القانون 52 المتعلق بتعاطي المخدرات. يُذكر أنّ الطبقة السياسية كانت قد تبنّت قبيل الاستحقاقين التشريعي والرئاسي مطلب التعديل وتناسته بعد ذلك، أمّا المجتمع المدني فقد واصل الضغط الذي توّج بإعداد مشروع قانون جديد. إلى ذلك، تمكّنت حملة مناصرة التونسيين من ذوي البشرة السمراء على مواقع التواصل الاجتماعي، من الضغط على وزارة العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان بهدف إحالة مشروع قانون يتعلق بالتمييز العنصري.
تجدر الإشارة إلى أنّه لم يسبق للتونسيين أن انخرطوا في المسار التشريعي والمشاركة خلال الحقبتين السابقتين. فالأولى تميّزت خلال بناء الدولة الحديثة، باستئثار نخبة حداثية مثقفة بمسار البناء والإصلاح. أمّا خلال حقبة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، فقد شهدت البلاد إضعافاً للنخبة السياسية المعارضة وضرباً للمجتمع المدني وتضييقاً عليه. ولم تواصل السلطة مسار البناء ولا تدعيم الحقوق، بل انكبّت على بناء الدولة البوليسية القمعية.