نخبة واسعة من الفرنسيين، خصوصاً رجال الإعلام والثقافة، وقفت مع خيار استقلال الجزائر، حتى إنّ البعض انخرط في الفعل الثوري ميدانياً، إلا أن قلة فقط حملت الجنسية الجزائرية بعد رحيل فرنسا عام 1962. في المقابل، حملت غالبية الجزائريين الذي انخرطوا في الطرح والجيش الفرنسيين الجنسية الفرنسية، واستقروا في فرنسا مستفيدين من رعاية وزارة قدماء الحرب.
يُطلق على هؤلاء في القاموس الشعبي الجزائري "الحركى"، أي الذين خانوا أرضهم وعرضهم. ويُنظر إليهم شعبياً ورسمياً نظرة ازدراء. لم تخفَّ هذه النظرة على الرغم من مرور نصف قرن من الاستقلال، كذلك لم تتغير نظرتهم هم إلى الجزائر المستقلة، حتى إنهم لا يكفون عن الضغط في المنابر الفرنسية من أجل عدم الذهاب إلى الاعتراف بالجرائم المقترفة والاعتذار عنها.
أسّست هذه الخلفية التاريخية لنظرة شعبية تزدري الازدواج في الجنسية، خصوصاً لدى جيل الثورة وأولادهم وأحفادهم، أو ما يُعرف بالأسرة الثورية التي ضغطت من أجل سنّ قانون يمنع تولي المتورطين ضد ثورة التحرير وأولادهم وأحفادهم من تولي مناصب رسمية ومؤثرة في الدولة الجزائرية، في مقدمتها منصب رئيس الجمهورية.
لكنّ جهود الأسرة الثورية وما وافقها من أحزاب وفعاليات ذات ميول وطنية، فشلت حتى مطلع عام 2016، في فرض توسيع نطاق المنع إلى حاملي جنسية ثانية. وقد تضمّن التعديل الدستوري الذي صادق عليه البرلمان بأغلبية أعضائه، مادة تنص صراحة على عدم السماح لهذه الشريحة بأن تكون ضمن نطاق الحكم والنفوذ الإداري والسياسي.
هذه المادة أثارت من الجدال السياسي والإعلامي ما لم تستطع مادة أخرى من المواد الجديدة إثارته، بما فيها تلك المتعلقة بالخيارات الاقتصادية الكبرى التي تتيح للقطاع الخاص وطنياً كان أم أجنبياً إمكانية شراء المؤسسات العمومية.
يومها قال الموافقون على المادة إنها تحصين للهوية والمصلحة الوطنيتَين من الخيانات التي قد يقترفها مزدوجو الجنسية في حق المصالح العليا للبلاد، في حال تولوا مسؤولية مؤثرة، إن لم يكن ذلك اختيارياً فنتيجة ضغوط أجهزة الوطن الثاني. أما الرافضون للمادة، فقالوا إنها تعسف في حق كفاءات جزائرية كثيرة اضطرتها الظروف القاسية إلى الهجرة لدواع علمية أو مهنية أو سياسية أو أمنية.
هذا الانقسام في مواقف الجزائريين تجاه المادة، أملاه اختلاف جيل الثورة والعقود الثلاثة التي تلتها والجيل الجديد الذي ولد في ظل سياقات ومقولات وطنية مغايرة، في النظر إلى معطى الجنسية المزدوجة. يقول سعد الدين ش. إنه بقي عاطلاً من العمل بعد تخرجه طياراً من الجامعة الجزائرية. لكن بمجرّد تواصله مع شركة الخطوط الجوية الفرنسية، ضَمَن الشغل والإقامة. يقرّ: "ما كنت لأغادر وطني وأقبل بجنسية كان يرفضها جدي، لو تحقق ما مات من أجله. من الخائن لوطنيته، أنا أم ذلك المسؤول الذي اضطرني إلى هذا الخيار، لأنه أجهض كل فرص التطور والنمو"؟
بالنسبة إلى سعد الدين، فإن جملة هذه الإجهاضات لأحلام جيل كامل جعلته يراجع مفهومه للوطن والمواطنة والوطنية. يشرح: "بات الشاب الجديد يرى وطنه في كل بيئة يمكنه أن يُحقق فيها ذاته، من هنا انتعشت ظاهرة الهجرة غير الشرعية. الشاب الذي يقبل بأن يموت في عرض البحر، إنما هو في الحقيقة يموت من أجل حلمه الذي يراه وطنَه، تماماً كما مات جده من أجل وطنه الذي كان يحصر مفهومه في مسقط الرأس".
من جهته، يسأل عبد الله بوكفة الذي هاجر لإكمال دراسته في باريس: "من الأولى بالتوجس من الجنسية المزدوجة، الدول الغربية، في مقدمتها فرنسا، أم الجزائر؟ ذلك أن الوقائع كلها، خصوصاً مباريات كرة القدم، أثبتت أن هوى المتجنسين المغتربين جزائري. مع ذلك، فإن الدولة الفرنسية لم تحرمهم من الوصول إلى مناصب عليا، بما فيها الوزارات".
في المقابل، تحفظ المسرحي عبد الوهاب بلّحول على الجنسية الفرنسية بالذات، بحكم الخلفية التاريخية المتشنجة. أما ما دونها فأمر عاديّ بحسب ما يشير، إلا من أكره لأسباب موضوعية. يقول: "الوطنية في نظري أشواق لا أوراق، والأولى أن نجرّم خونة الداخل الذين نهبوا اقتصاد البلاد وثقافتها وبيئتها. من الخائن في نظر المنطق، الفنان الشاب خالد الذي قبل الجنسية المغربية قبل فترة قصيرة، أم المسؤولون الصامتون على انهيار وسرقة الآثار التي تمثل هوية الجزائريين"؟ يضيف: "كنت أتوقع أن يُجرّد المسؤولون ذوو الجنسية المزدوجة من مناصبهم العليا بمجرد إقرار الدستور الجديد، لكن لا خطوة حدثت في هذا الإطار".
تجدر الإشارة إلى أنّ من أكثر تسجيلات الفيديو مشاهدة وتداولاً في أوساط الجزائريين خلال أبريل/ نيسان الجاري، هو تسجيل للنائب البرلماني طاهر ميسوم الذي صرّح فيه أنه لا يستطيع التعامل مع وزير الصناعة الحالي عبد السلام بوشوارب، لا لأن اسمه ورد في "وثائق بنما" فحسب، بل لأنه يحمل الجنسية الفرنسية أيضاً. وطالب الحكومة بتطبيق حكم الدستور الجديد عليه وعلى كثيرين من أمثاله.