"الحق في مستقبل عادل لفلسطين". أمر يجزم به تشارلي أندرياسون الذي يبحر على متن سفينة "العودة" التي تقود أسطول الحرية لكسر الحصار عن غزّة. على تلك السفينة، في المساحة التي اصطُلح على تسميتها "صالوناً"، كان تشارلي يغمّس قطعة خبز في حساء سمك مجمّد، بعدما حان دوره لتناول الطعام. لكنّ الطعام لا يعوّقه عن التعبير عمّا يزعجه، "سنوات يستمر خلالها غياب العدالة والسماح لدولة الأبرتهايد بممارسة كلّ ما يخالف القوانين الدولية. لو قام فلسطينيون بتلك الأفعال لكان العالم انشغل في كيفية تأكيد الفعل الإرهابي".
حول مائدة الطعام، عُلّقت صور وجوه فلسطينيين على جدران أضيفت إلى السفينة بعد توسعتها في النرويج. أمّا على المائدة التي يتناوب طاقم السفينة عليها، فثمّة حساء سمك أعدّه المتطوع السويدي يان بيتر وقطع من الخبز وكيس لحم مجفف حمله معهم متطوعون ماليزيون لاحتوائه على البروتينات التي يحتاجون إليها خلال رحلتهم التي انطلقت من ميناء العاصمة الدنماركية كوبنهاغن في 22 مايو/ أيار المنصرم.
وتشارلي متطوّع سويدي على متن هذه السفينة، لا يهدأ، سواءً كبحّار أو كناشط. ينشغل بهاتفه، غير أنّه، وعندما يطلب منه أحدهم توضيح ما يقرأه، ينفعل قائلاً: "ما هذا الهراء الإسرائيلي الجديد؟ إنّها سخرية أخرى. يتحدثون عن إرهاب زراعي ثمّ يسمحون لمستوطنين بقطع أشجار عنب عائلة التميمي، في ممارسة لا يمكن وصفها بالأصل إلا بأنّها إرهابية".
تشارلي أصهب اللون، ولعلّ هذا بعض ممّا يميّزه على متن السفينة، إلى جانب عصابة رأسه التي تلازمه. يعرّف عن نفسه بأنّه مجرّد "ناشط في مجال حقوق الإنسان"، لكنّه على الرغم من حدّته عند التكلّم عن الاحتلال الإسرائيلي يبقى شخصاً خجولاً جداً في تعامله مع ركاب سفينة "العودة"، سواءً الناشطين منهم أو الزائرين. وهو جزء من طاقم متطوّع، يتعامل مع السفينة كأنّها "الثروة الكبرى لإيصالها إلى صيادي غزة". وهذه ليست المرّة الأولى التي يبحر فيها تشارلي في اتجاه غزّة، بل هي الثالثة. زملاء تشارلي عاودوا الكرّة مرّات عدّة، على الرغم من أنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي سطت على سفنهم سابقاً، وقد تعرّضوا مثل شارلي إلى الاعتقال والترحيل ومُنعوا من الدخول لسنوات عشر.
بالنسبة إلى تشارلي، "لا يوجد ما هو مميّز في حياتي الخاصة. فقد ولدت في منطقة غوتنبرغ، جنوبي غرب السويد، وهناك تابعت دراستي. لكن، ثمّة ما غيّر حياتي حين كنت شاباً أقرأ عن واقع الفلسطينيين. لذا توجّهت إلى قطاع غزّة وعشت فيه عاماً كاملاً بين أهله وصياديه تحديداً. تعرّفت على البؤس والمعاناة في يومياتهم". ويأسف لأنّه "عند توقيع اتفاقية أوسلو (1993) كان ثمّة 14 ألف صياد في القطاع، أمّا اليوم فلا يتجاوز عددهم أربعة آلاف".
وهذا السويدي الناشط كان قد تابع دراسته في العلاقات الدولية، لكنّه رفض الانخراط في سلك التعليم الجامعي، مفضلاً "العمل في المجال الحقوقي المتعلق تحديداً بالقضية الفلسطينية". ويقرّ: "أجّلت كل شيء شخصي، حتى العلاقات العاطفية والارتباط والإنجاب. فأنا لطالما حلمت بالعدالة. وبالرغم من تفهّم أهلي لنشاطي، فإنّهم قلقون بالتأكيد حول مصيري، والأصدقاء يسألون دوماً إلى متى سوف أبقى عازباً". وعن تلك الأمور الشخصية ودوافعه لتكرار تجربة خوض غمار البحر نحو غزّة، يؤكد أنّ "القصة باختصار تتعلق بالضمير. ضميري لا يسمح لي بالبقاء من دون حركة. اعتُقلت مرّتين في عامَي 2012 و2015، ووضعتني السلطات الإسرائيلية منذ سنوات على لائحتها السوداء، على الرغم من أنّنا لا نأتي بأعمال عنفية".
للرجل السويدي فلسفته، تماماً كغيره من المشاركين في هذه الرحلة الطويلة. ويردّد: "كيف يمكنني النظر في عيون أطفال سوف يسألونني في يوم: ماذا فعلت لمحاربة اللاعدالة حول العالم؟ هكذا، أجّلت كل شيء علّني أملك جواباً ذات يوم أمنحه لهم وللزوجة التي سوف أرتبط بها". ويغوص أكثر في واقع الفلسطينيين، الأمر الذي يمثّل دافعاً من بين دوافع أخرى لموافقه ونشاطه. وعن المخاطر التي يواجهها، يرى أنّها "لا تساوي شيئاً إذا قارنتها بما يتعرّض له الشعب الفلسطيني من جرّاء إصرار الاحتلال الإسرائيلي على منعه من الاستقلال". ويشير إلى أنّه "لديّ مرآة في منزلي، ولا أستطيع النظر فيها إن لم أكن أفعل ما أفعله اليوم".
في الفترة التي تلت اعتقاله الأخير في عام 2015، لم يهدأ تشارلي، بل عاد إلى المتوسط مع أوروبيين آخرين للعمل ضمن فرق إنقاذ اللاجئين من الغرق. يقول: "هذا يؤثّر بك كذلك، لكنّك تفعله كأمر آنيّ بينما أنت تريد إزالة آثار الاستعمار وما خلّفه وراءه من إفقار واستغلال. والعمل من أجل غزّة وفلسطين، نهدف من خلاله إلى وضع الحجر الأساس ولو كان ذلك بطيئاً، لتغيير بنيوي وليس مجرّد إنقاذ. نحن نراهن على تغيير تفكير البشر، ولذا نتخذ هذه المسارات البحرية الأوروبية لنثير الأسئلة وندفع الناس إلى التفكير ملياً بما تقوم به دولة الأبرتهايد التي يؤيّدها سياسيو أوروبا". بالنسبة إلى تشارلي، فإنّه "من الصعب عليك أن تعيش ما يسمّى يوميات عادية، مثل الاستمتاع بالخروج مع الأصدقاء وكأنّ الظلم شيء غير موجود. ويصعب عليّ أن أعيش ما يسمّى حياة طبيعية إن لم أفعل شيئاً للفلسطينيين. وأقول لأصدقائي في السويد: هذا الذي ترونه كان يمكن أن يحدث لنا، أي أن نكون نحن الفلسطينيين. وحينها، سوف تكون لدينا أسئلة الشعب الفلسطيني نفسها عن دور العالم. وهذا دورنا في الإجابة. هي مسؤولية إنسانية مشتركة يجب أن نؤدّيها جميعنا". يُذكر أنّ قبل عام، بدأ التجهيز لسفينة "العودة" في النرويج. وهي سفينة جرى شراؤها بأموال متبرّعين، وشارك تشارلي في إعادة تجهيزها لاجتياز آلاف الأميال وصولاً إلى غزّة.