بعد قدّاس الأحد مباشرة، تتهيّأ سميرة للمهام التي عليها إتمامها قبل بداية أسبوع حافل. تعود إلى المجمع السكني الكبير في منطقة سان - لوران، والذي تقطن في طابقه الثاني مع زوجها وطفليها. تتجه بعدها نحو غرفة الغسيل.
منذ وصولها إلى كندا قبل شهر من لبنان الذي لجأت إليه وعائلتها هرباً من صراع بلدها، سورية، وتحديداً من محافظة الحسكة، اعتادت هذا الروتين.
بخجل وبلغة إنجليزية متردّدة تسأل عن الأفضل بين ماكينات الغسيل المنتشرة في المكان. ترسم ابتسامة اطمئنان وفرح عندما تُدرك أنّ من يخاطبها عربي ويعي مستوى اهتمامها بنتيجة غسيلها. لكنّ حيرة سميرة الأكبر في "وطنها الجديد" تتخطى نظافة الأبيض، وتعود إلى اللحظات الأولى التي تأكّدت فيها من قبول عائلتها للهجرة إلى كندا عبر كفيل خاص، في إطار خطة متكاملة أعلنت عنها الحكومة الفدرالية عام 2015.
"طوال فترة انتظار رحلتنا كنا نشعر بعدم الاستقرار" تشرح وهي تستذكر تفاصيل الشهور الماضية. تضيف: "لماذا يربكوننا ويخبروننا قبل ثلاثة أيام فقط عن موعد رحلتنا؟". لكنّها تستدرك: "بالتأكيد هناك أسباب مُبرّرة لكنها معقدة برأيي، بغض النظر عن مدى امتناننا للجهود التي بُذلت".
منذ الخريف الماضي حطّت على مدارج المطارات الكندية 57 طائرة في رحلات نظمتها الحكومة لنقل المهاجرين/ طالبي اللجوء السوريين من لبنان والأردن وتركيا. فاق عدد الذين نقلتهم تلك الرحلات من الصراع والنزوح إلى أراضي أميركا الشمالية، 15 ألفاً، أي أكثر من 70 في المائة من العدد الإجمالي ممن قبلت هجرتهم في إطار خطة تم الإعلان عنها العام الماضي لاستقبال 25 ألف لاجئ.
تفتخر دوائر الهجرة الكندية العاملة في الداخل والخارج بدقتها. لكن يبدو أنّها ارتبكت بدورها في زحمة التدابير اللوجستية والإجراءات البيروقراطية لتنفيذ خطتها بسرعة واحترام الجداول الزمنية المحددة لتجنّب العواقب السياسية - خصوصاً أنّ العيون جميعها مفتوحة على أداء رئيس الوزراء الجديد جاستين ترودو.
من عواقب الإجراءات المستعجلة على عائلة سميرة اضطرارها إلى بيع سيارتها "ببلاش"، وتخلي زوجها عن عمله، "فيما كنا بحاجة إلى كلّ قرش في تلك المرحلة". تقول: "هناك عائلة مقرّبة منّا أُبلغت بموعد الرحيل، وبعد أن تخلت عن المنزل وباعت الأثاث المتوفر والأغراض، تبين في نهاية المطاف أنّ الموعد بعد شهرين!".
عائلة مقدسي كانت تعيش في حلب. انتقلت إلى لبنان في نهاية عام 2014. بتوجيه من العمة المقيمة في مونتريال قدّمت العائلة أوراقها للهجرة إلى كندا برعاية الكنيسة. الفحوص الطبية، والمقابلة استغرقت بعض الوقت. "لكن المشكلة الأكبر هي أنك تُفاجأ بموعد السفر" يقول الابن شادي (28 عاماً) الذي وصل وشقيقته كريستين إلى مونتريال في بداية عام 2016.
في البداية أُعلمت الشقيقة أنّ رحلتها وحدها ستكون في 28 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، فرفضت العائلة سفرها. ومن ثُمّ أُعلم أخوها وترتّبت الأمور بأن يسافرا سوياً. لكنّ الوالد والوالدة ما زالا في لبنان "ولا نعرف متى موعد مجيئهم، وليست لدينا أي فكرة عن تفاصيل ملفهم، مهما حاولنا الاستفسار والاتصال، وهو ما يولّد لي قلقاً مستمراً، ويُعقّد علينا الاستقرار" يقول شادي.
على الرغم من تعقيدات الأوراق والإجراءات والتدقيق الأمني الذي تُجريه الفرق العسكرية والاستخباراتية والمدنية الكندية في بلدان اللجوء، تبقى مشكلة لمّ الشمل وهاجس الحفاظ على وحدة العائلات. ولمعالجة هذه القضية أعلنت وزارة شؤون الهجرة واللجوء والمواطنة عن مبادرة "الروابط العائلية" التي تصبو فيها إلى مساعدة السوريين في كندا على التنسيق مع أفراد عائلاتهم اللاجئين في لبنان والأردن وتركيا وتأمين مواطنين ومجموعات ناشطة في هذا المضمار لدعم مجيئهم إلى كندا والاندماج في المجتمع.
في هذا الإطار، يقول الوزير المعني بقضية المهاجرين جون ماكالوم: "لقد اتحد الكنديون من المحيط إلى المحيط لبذل جهد على المستوى الوطني لمساعدة السوريين اللاجئين". يشدد على أنّ هذه المبادرة من شأنها دعم الجهود التي يبذلها الكفلاء للمّ شمل العائلات السورية.
يشرح محمد (25 عاماً) الذي جاء إلى مونتريال على الطائرة نفسها التي نقلت عائلة مقدسي، أنّ تغييرات طارئة أجلت الرحلتين اللتين كانتا مقرّرتين في بداية العام. "كنا أكثر من 400 شخص نجتمع في مركز تابع للأمم المتحدة في منطقة الجناح في بيروت، مستعدين للتوجه إلى المطار، قبل أن يتبيّن أنّ الرحلة تأجلت، فنقلنا إلى أكثر من عشرة فنادق في العاصمة اللبنانية".
أمضى المهاجرون الليلة برعاية ومساعدة موظفي منظمة الهجرة العالمية، قبل أن تنطلق الرحلتان في صباح اليوم التالي إلى الأردن ومن ثم إلى البرتغال، بعدما كان مقرراً التوقف في العاصمة الفرنسية باريس، وفي النهاية إلى مونتريال.
الوصول إلى المدينة الكندية الواقعة في مقاطعة كيبيك الفرنسية، كان أكثر استقراراً. يقول محمد: "انتقلنا إلى قاعة الاستقبال الرئيسية حيث مختلف الخدمات لتيسير شؤوننا. تسلمنا الحقائب والأمتعة هناك، ومُنح كل شخص معطفاً شتوياً خاصاً وحذاءً للثلج".
اقرأ أيضاً: استنكار سياسي للاعتداء على لاجئين سوريين في كندا
هكذا، تختلف المعطيات والإجراءات بعد الوصول. في حالة سيمون، الذي وصل في ديسمبر الماضي، حصل على بطاقة الإقامة الدائمة خلال فترة عشرين يوماً فقط، فيما معدل فترة الانتظار حالياً يبلغ 3 أشهر. يشرح الموظفون المعنيون للمهاجرين أنّ الحفاظ على وضعية الإقامة الدائمة يقتضي المكوث على الأراضي الكندية لفترة عامين (ليس بالضرورة متواصلة) خلال فترة خمس سنوات. وللحصول على الجنسية عليهم المكوث فعلياً على الأراضي الكندية لفترة أربعة أعوام خلال ستة أعوام، مع حد أقصى للغياب لا يتجاوز ستة أشهر خلال عام واحد.
وفي ظل الاطمئنان إلى هذه المسألة وضمان سير الإجراءات، يصبح الهاجس حالياً البحث عن عمل أو ترتيب الحياة الجديدة عبر الدراسة. يرتشف شادي القهوة ويشير في الوقت نفسه إلى أحد أعمدة إرسال الاتصالات اللاسلكية. يقول: "هذا كان عملي في شركة تشغيل الهواتف الخلوية في سورية". "كنت مسؤول صيانة وتحديث في حلب. خضعت إلى دورات تدريبية مستمرة، لكن للأسف فهمت من سوق العمل هنا أنه من شبه المستحيل أن أجد فرصة في اختصاصي، لذا عليّ ترتيب شؤوني عبر العمل في متجر للمأكولات والخضار، وفي الوقت نفسه تعلّم مهارة أخرى تدعمني في بحثي عن عمل آخر".
ليس هيناً الاستقرار - أو التأقلم مع "إعادة التوطين" في أي مجتمع جديد، خصوصاً في كندا حيث خبرة العمل الوطنية تُعدّ شرطاً أساسياً لإيجاد عمل في سوق له خصوصية ثقافية، وتحديداً في المقاطعة الفرنسية التي يقطنها 8 ملايين نسمة، أي خمس إجمالي سكان البلاد. لكن عادة ما يتعلّق الأمر بالمهارات التي يتمتع بها المهاجرون وإمكان ترتيب فرصة عمل في كنف المؤسسات التي يُديرها أبناء جاليتهم.
تقول سميرة: "لم يكن يهمّني البرد والاندماج في المجتمع الجديد، بقدر ما كان مهماً أن يجد زوجي عملاً". تضيف: "هو مزين شعر وقد وجد فرصة للعمل أربعة أيام في الأسبوع".
من جهتها، تسهّل المصارف الكندية شؤون الوافدين الجدد وإن لم يبدأوا إنتاجهم بعد. في هذا السياق، يشير محمد إلى "عرض مميز" يقدّمه أحد البنوك للمهاجرين: "بطاقة ائتمان بقيمة 1500 دولار من دون كلفة، وفتح حساب وإدارته من دون كلفة أيضاً لفترة عام كامل".
ومن الأهمية بمكان أن يبني المرء تدريجاً صيته الائتماني في هذه البلاد لكي ينطلق في بناء حياته المتكاملة القائمة على دورة القروض والرهون العقارية والاستهلاك. لا يطول الأمر قبل أن يعي الوافدون الجدد هذه المسائل، وهم يفهمون حجم التحديات والصعوبات التي عليهم مواجهتها لبناء عالمهم الجديد، فيما إطلاق عملية إعادة بناء وطنهم الأصلي غير محدّد حتى إشعار آخر.
يبقى الحنين إلى الوطن العامل الأصعب لدى المهاجرين. يقول شادي مقدسي: "كنّا قد تأقلمنا مع حياة الحرب في سورية. أختي ما زالت في حلب مع عائلتها، زوجها يعمل مع الأمم المتّحدة، وراتبه جيد. أما نحن فعلينا التأقلم مع حياة جديدة كلياً".
اقرأ أيضاً: "الحلم الكندي".. سوريّو الأردن يوضّبون حقائبهم