حتى وقت قريب كانت أكلات مثل "الشخشوخة" و"الزفيتي" و"البركوكس" وحتى الكسكسي، نادرة الوجود في المطاعم الجزائرية، إلا في بعض المطاعم السياحية، لكن تنامي المطاعم الشعبية التي تعرف بـ"الخيمة"، ساهم إلى حد كبير في إعادة تقديم كثير من الأكلات الشعبية التقليدية.
في منطقة باب الزوار وبرج الكيفان في الضاحية الشرقية، وأولاد فايت والعاشور في الضاحية الغربية للعاصمة الجزائرية، تنتشر مجموعة من المطاعم الشعبية التي اختارت أن تتخذ ديكورا متميزا، حيث تأخذ من الداخل شكل الخيمة، وتعتمد تفاصيل لها علاقة بحياة البدو الرحل تارة، وسكان المناطق الداخلية قديما تارة أخرى، فتظهر جرة الماء والبنادق التقليدية، والمقاعد التقليدية البسيطة المصنوعة من الخشب أو الخيزران.
يقول منصور، وهو صاحب خيمة تقليدية في برج الكيفان: "كنت أشتغل في خيمة في منطقة المسيلة وسط الجزائر، وفكرت أنه يمكن أن تنجح تجربة الأكلات الشعبية في العاصمة. عرفت أن كثيرا من سكان العاصمة يشتهون الأكلات التقليدية من مرورهم على مدينتنا بوسعادة، وكنت أدرك وجود عدد كبير من الطلبة والموظفين من المناطق الداخلية في العاصمة، وهؤلاء سيمكنني أن أتيح لهم فرصة تذوق الأطباق التقليدية".
بعد نجاح الخيمة الأولى في برج الكيفان، تطورت التجربة وظهرت عدة خيام في المنطقة، وانتقلت إلى ضواحي العاصمة، وباتت الخيام تستقطب كثيرا من الزبائن والسياح الأجانب، ففي إحدى الخيام كان مجموعة من السياح الصينيين يتناولون أكلات شعبية جزائرية.
وبات كثيرون يأخذون ضيوفهم إلى وجبات عشاء في هذه الخيم، كما يقول هشام: "كلما جاءني ضيوف من أصدقائي، أستضيفهم لتناول وجبة تقليدية هنا. الديكور رائع، والأكل جميل وممتع وعائلي أيضا".
وتقدم هذه الخيام مجموعة من الأطباق الشعبية بطريقة تقليدية، بداية من تحضيرها كطبخات يختلف مذاقها بحسب التسمية التي ارتبطت بمنطقة، والتي تختلف عن مذاقها في منطقة أخرى، إلى تقديمها في أطباق من الخشب، فضلا عن الطريقة التي تقدم بها.
يقول عبد الرحمن القادم من وسط الجزائر، لـ"العربي الجديد ": "عندما تعرف أن محلا بسيطا يقدم الزفيطي أو الشخشوخة، فإنك بالضرورة تتجه نحوه إن كانت أصولك من منطقة جبال الحضنة وسط الجزائر وما جاورها من مدن تتشبث بهذا الأكل الشعبي. تتسم هذه الطبخة العجيبة واللذيذة بمذاقها الحار جدا لاستخدام الفلفل الأخضر الحار الذي يطبخ مع العجين ثم يتم تقطيعه بالمهراس الخشبي، وتقدم في وعاء مصنوع من الخشب".
ويضيف أن هذه "الأكلة الشعبية الخاصة بسكان منطقة المسيلة، جالت وصالت عبر مختلف ولايات الجزائر، وحافظت على شهرتها باعتبارها تقدم بطريقة تعبر عن الجماعة أو اللمة الطيبة بين الأصدقاء، سواء كانوا منحدرين من تلك الولاية، أو يريدون تجريب مذاقها والتعرف على نكهتها".
وتقدم هذه الأكلة مع قطع من اللحم والحمص والخضر، وغالبا ما يقدم معها كأس لبن، أو تؤكل مع سلطة من الخس والزيتون، فضلا عن بعض المقبلات الأخرى التي تعد ديكورا يزين المائدة التي يقدم عليها الطبق التقليدي.
في مطاعم الأكلات الشعبية استطاعت "الزفيطي" أن تتربع على عرش المأكولات كثيرة الطلب في العاصمة الجزائرية وضواحيها. يعتبرها نورالدين، وهو أحد أصحاب محال طهي الأكلات الشعبية، "خلقت منافسة شديدة مع الكسكسي الذي يعتبر الطبق المشهور عبر كل الولايات، نظرا لحب البعض اكتشاف مذاقها، فضلا عن كونها لذيذة وتأسر البطن قبل القلب".
أما الهادي، الذي يسكن منطقة "حمادي" بالضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية، فيقول لـ"العربي الجديد"، إن المنافسة صارت شديدة بين "الزفيطي" و"الشخشوخة" التي تطهى بخبز دقيق القمح وتقدم بمرق اللحم والدجاج والخضر والحمص، على اختلاف نكهاتها التي تتباين من منطقة إلى أخرى، بينما تعتبر "الشخشوخة البسكرية" أول الأكلات طلبا لدى جمهور الأكلات الشعبية في العاصمة، باعتبار أن كثيرا من تجار منطقة بسكرة استقروا في وسط الجزائر، وهم يقصدون المطاعم التي تعيد لهم تقاليد الأكلات الشعبية التي تربوا عليها، وخصوصا في الأعراس والمناسبات.
وحازت أكلة "الدوبارة" مرتبة معتبرة لدى الزبائن، وهي عبارة عن حمص يطهى بلحم الضأن لساعات طويلة، وبمقادير محددة يضاف إليها الفلفل الحار، وهي الأكلة التي تقدم في المحلات البسيطة، وخصوصا عندما يكون الطقس باردا.
في الشرق الجزائري تظل أكلة الحمص بلحم الأرانب منتشرة، وخصوصا في قسنطينة القديمة، وفي حواري حي "السويقة" العتيق، كما أن أسعارها المنخفضة مقارنة بالأطباق الأخرى، تجعلها متاحة للجميع، حيث تكلف 150 دينارا جزائريا تقريبا (أقل من يورو واحد)، ولهذا يقال إنها "أكلة الفقراء والأغنياء".
وترى أستاذة علم الاجتماع الثقافي، نورة بودلال، أن "أي أكلة شعبية هي عنوان لجماعة معينة، ويتم توارثها من الأجداد. الأكلات الشعبية هي بصمة المجموعات في أي منطقة، والتي تميزها عن مجموعات أخرى في باقي المناطق".
وتضيف أن: "أهم ما يميز الجزائر هو ذلك التنوع في العادات والتقاليد، والذي تؤثثه الأكلات الشعبية، والتي تمنح كل منطقة طابعا خاصا، ما يجعلها محل اهتمام من الأفراد والجماعات لتوريثها إلى الأجيال".