تفرض مجزرة تاجوراء التي تتهم مليشيات خليفة حفتر بارتكابها فجر الأربعاء بحق أكثر من أربعين مهاجراً سرياً، إعادة فتح ملف الجحيم الذي باتت تمثله ليبيا بالنسبة لآلاف الهاربين من الفقر والجوع والحروب، ليعلقوا في شرك الاستغلال والعبودية.
انتظرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أمس الأربعاء، وقوع المجزرة في أحد مراكز الاحتجاز في منطقة تاجوراء الواقعة شرق العاصمة الليبية طرابلس، وسقوط عشرات القتلى والجرحى من بين مهاجرين سريين، لكي تحثّ على وضع حدّ فوري لإعادة المهاجرين السريين الذين يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط إلى ليبيا. وكأنّما لا يكفي هؤلاء المهاجرين السريين ما يعانونه في مراكز الإيواء من انتهاكات وعبودية ومتاجرة بالبشر واستغلال متعدد الأشكال، فأتت تلك الضربة التي تتهم مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر بارتكابها، لتفاقم مأساتهم التي تتحمّل مسؤوليتها أطراف عدّة، الاتحاد الأوروبي أحدها.
في تقرير حول الهجرة السرية نُشر في الثلاثين من يونيو/ حزيران المنصرم، أشارت وكالة "أسوشييتد برس" إلى أنّ "أحلام مئات المهاجرين السريين الأفارقة بحياة جديدة في أوروبا انتهت في مركز احتجاز في الصحراء النائية بليبيا التي تمزّقها الحرب". وقد نقل التقرير عن بعض هؤلاء أنّهم "احتجزوا على مدى أشهر وسط مياه الصرف الصحي والنفايات والأمراض والدود، مع كميات طعام بالكاد تكفيهم للبقاء على قيد الحياة". يُذكر أنّ التقرير الذي وصف الوضع القائم بالكارثي، ركّز على مهاجرين سريين في الزنتان (شمال غرب) ونقل عن أحدهم قوله: "نحن في حاجة إلى إجلاء فوري من الزنتان. نحن نعاني جسدياً ونفسياً وعاطفياً".
وفي أواخر يونيو/ حزيران المنصرم، حذّرت منظمة "أطباء بلا حدود"، من جهتها، من أنّ الوضع في مركزَي احتجاز المهاجرين السريين في مدينتَي الزنتان وغريان (شمال غرب) صار "كارثياً"، وذلك بعد انتشار مرض السلّ وأمراض أخرى بين المحتجزين، الأمر الذي أدّى إلى وفاة 22 شخصاً منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، "بمعدّل ما بين شخصَين اثنَين وثلاثة أشخاص يموتون شهرياً". وكانت المنظمة قد زارت المركزَين المذكورَين وأكّدت أنّ "مئات الأشخاص في حاجة إلى حماية دولية وإلى تسجيلهم لدى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين كطالبي لجوء أو لاجئين، غير أنّهم عالقون في مركَزي الزنتان وغريان منذ أشهر عدّة، وفي بعض الأحيان منذ أعوام، من دون أيّ مساعدة".
في السياق، صرّح رئيس بعثة منظمة "أطباء بلا حدود" في ليبيا جوليان ريكمان بأنّ "مركز احتجاز الزنتان ليس استثناءً، بل هو تذكير صارخ بنظام احتجاز ضار يعرّض حياة اللاجئين للخطر وتغذّيه أوروبا بشكل متعمّد". أضاف أنّه لا بدّ من زيادة عمليات إجلاء اللاجئين وطالبي اللجوء من ليبيا وإعادة توطينهم بأسرع وقت ممكن، متابعاً أنّه "لا يمكن لذلك أن ينجح إلا إذا كانت الدول الآمنة في أوروبا وفي أماكن أخرى على قدر المسؤولية في ما يتعلق باللجوء، وإذا أوقفت الدول الأوروبية سياستها الفظيعة المتمثلة في الإعادة القسرية غير القانونية لطالبي اللجوء إلى ليبيا".
تفيد بيانات منظمة العفو الدولية الصادرة في نهاية عام 2018، بأنّ ثمّة 16 مركزاً رسمياً لاحتجاز المهاجرين السريين في ليبيا تؤوي نحو ستّة آلاف مهاجر سري اقتادهم إليها خفر السواحل الليبية بعد اعتراض طريقهم أو إنقاذهم من المياه الإقليمية. ويعيش هؤلاء المهاجرون السريون، بمن فيهم المحتجزون في مراكز بالعاصمة طرابلس، ظروفاً قاسية جداً تفاقمت مع المعارك العسكرية التي اندلعت من جديد ابتداءً من إبريل/ نيسان الماضي، إذ إنّ بعض مراكز الاحتجاز تقع من ضمن مناطق الاشتباكات. وثمّة أزمة إضافية تظهر في السياق، إذ إنّ الأطراف المتنازعة راحت تلجأ إلى تجنيد عدد من المهاجرين السريين للقتال في صفوفها أو أداء مهمّات تفيد العسكريين على الأرض، لا سيّما من بين المهاجرين السريين السودانيين. يُذكر أنّ مراكز احتجاز المهاجرين السريين في العاصمة الليبية تُدار من قبل جهات عسكرية خاضعة لجهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، وقد وردت تقارير عدّة عن ممارستها انتهاكات مختلفة بحقّ المهاجرين السريين المحتجزين.
وتشير شهادات مهاجرين سريين جمعتها جهات مختلفة إلى أنّ القائمين على مراكز الاحتجاز يتحكّمون بمصائرهم من دون أيّ رادع. ويُجبر هؤلاء على العمل بالسخرة أحياناً بالإضافة إلى تعرّضهم لمختلف أنواع الاستغلال وكذلك التعذيب. وهو ما سبق وأكّده تقرير أصدرته مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان بالتعاون مع بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في عام 2016. وقد أوضح التقرير نفسه أنّ المهاجرين السريين مجبرون على العمل من أجل توفير المبالغ التي تسمح لهم بالخروج من مراكز الاحتجاز. وفي عام 2018، أصدرت المفوضية بالتعاون مع البعثة تقريراً آخر أوردت فيه المعلومات نفسها المذكورة في تقريرها لعام 2016، مؤكدة فيه أنّ القائمين على مراكز الاحتجاز يخرجون المهاجرين السريين منها بانتظام بهدف إجبارهم على العمل الذي يأتي غالباً تحت الضغط والتهديد. كذلك قد تُفرض على هؤلاء أعمال في داخل نطاق مراكز الاحتجاز التي تصفها جهات مطّلعة بأنّها "استغلالية".
والأزمة الكبيرة التي لا يمكن اختصارها بأسطر، تحمّل جهات مختلفة، حقوقية وغير ذلك، مسؤوليتها إلى الاتحاد الأوروبي، لا سيّما أنّه وقّع في عام 2016 اتفاقاً مع ليبيا يموّل من خلاله خفر السواحل الليبي ويقدّم الدعم اللوجيستي له بهدف منع المهاجرين السريين من بلوغ أوروبا. وفي السياق، رُفعت وثيقة قانونية أمام المحكمة الجنائية الدولية، حمّلت فيها مجموعة من المحامين الدوليين مسؤولين في الاتحاد الأوروبي وسياسيين مسؤولية إنشاء "طريق الهجرة الأكثر دموية في العالم". وقد طالب هؤلاء المحامون المحكمة الجنائية الدولية بالنظر في تورّط الاتحاد في قضية اعتراض طريق أكثر من 40 ألف شخص في البحر الأبيض المتوسط ونقلهم إلى مراكز احتجاز وتعذيب على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. بالنسبة إليهم، أتى ذلك على خلفية سياسة الهجرة الأوروبية التي تسببت - بحسب هؤلاء المحامين - في تعرّض المهاجرين السريين لعمليات اغتصاب وتعذيب على نطاق واسع على أيدي خفر السواحل الليبي الذي يُموَّل ويُدرَّب بفضل دافعي الضرائب الأوروبيين. بالتالي، حمّل هؤلاء المحامون دول الاتحاد مسؤولية جرائم ضدّ الإنسانية ارتكبت بحق المهاجرين السريين، وطالبوا بمقاضاتها لأنّها أدّت دوراً بارزاً في ما يسمى "أزمة اللاجئين".