كثيراً ما يتحدث الجزائريون عن أزمة السكن، لا عن أزمة المسكن، من ناحية التشوهات التي تهدد هويته وجمالياته، إذ يكاد المبنى الجزائري بخصوصياته المعمارية ينحصر في الصور التذكارية فقط
راكم المعمار في الجزائر أو المغرب الأوسط ملامحه الخاصة من خلال حقب تاريخية كثيرة، تبادل فيها روح التأثير والتأثر مع ملامحها المعمارية، منها الفينيقية والرومانية والإسلامية والعثمانية والفرنسية، ورغم أن بعض هذه الحساسيات المعمارية الوافدة تمت محاولة فرضها في الفضاء الجزائري بالقوة، في مقدمتها الحساسية الفرنسية، إلا أن البيت الجزائري بقي محافظاً على خصوصياته التي لا تحيل إلا عليه.
هذه الخصوصيات التي أثمرها تعدد المكان، أكثر من مليوني كيلومتر مربع، واتساع الاحتكاك بالآخر وتعدد المناخ، بهرت المعماري السويسري/ الفرنسي لو كوربوزييه (1885 ـ 1965) فقدم للسلطات الفرنسية مشروعاً لتكريسها في ما تبنيه في الجزائر، فتعاملت معه على أنه يريد تخريب سياسة تمدينها للجزائريين وأمرت بطرده، مستكملة مشروعها القاضي بأن تفرض بصمتها المعمارية إلى أن غادرت عام 1962، والدليل أن وسط المدينة في الشمال الجزائري ذو طابع فرنسي صرف.
روح المكان
صمدت خصوصيات المبنى الجزائري، بيتاً كان أم مسجداً أم مؤسسة خلال العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال، ثم بدأت تصاب بجملة من التشوهات بسبب عوامل موضوعية منها النزوح الذي فرضته تجربة العنف والإرهاب في التسعينيات، حيث استقبلت المدن مناطق كاملة فرت من الأوضاع الأمنية المتردية، من غير استعداد مسبق لذلك، فبدأ يظهر منطق البناء العشوائي، ليس على هامش المدن فقط بل في قلبها أيضاً.
تتجلى مظاهر هذه التشوهات المعمارية في عدم انسجام البناءات الجديدة مع الروح السائدة في المكان، من حيث الأشكال والألوان وطغيان روح الإسمنت على حساب الجماليات وتعويض حدائق ومسابح البيوت بالمستودعات والكاراجات انسجاماً مع النزعة التجارية التي باتت تتحكم في الشارع الجزائري ما بعد الإرهاب.
رغم أن معظم الجامعات الجزائرية باتت لا تخلو من معاهد للهندسة المعمارية التي تخرّج المئات سنوياً ينتظمون في أكثر من هيئة منها "المجلس الوطني للمهندسين المعماريين"، إلا أن نسبة قليلة من الجزائريين، تلجأ إلى طلب خدماتهم قبل مرحلة البناء، فيما يتم اعتماد الأغلبية على خبرات البنائين العصاميين مباشرة، ما عزز سلطة هذه التشوهات.
اقــرأ أيضاً
لا قوانين ملزمة
نقلنا هذا الهاجس إلى أحد المستشارين في مديرية التعمير بالجزائر العاصمة، رفض الكشف عن اسمه، فقال إن الوضع يستدعي بناء هذه الثقافة من طرف منظومات معنية كثيرة، مع سن قوانين ملزمة بذلك. يقول: "رغم أن الرئيس بوتفليقة تطرق إلى الموضوع في أحد خطاباته، إلا أن المؤسسات التشريعية لم تتحرك في هذا الإطار، مكتفية بسن قانون ملزم بضرورة الحصول على شهادة تؤكد توفر المعايير المضادة للزلازل".
المسؤول نفسه قال لـ"العربي الجديد" إن الحكومة مطالبة اليوم بالتحرك لفرض احترام خصوصيات كل منطقة، بمنع كل بناء يشكل نشازاً، وأعطى مثالًا على ذلك مدينة أدرار على الحدود مع دولتي مالي وموريتانيا المعروفة بالمدينة الحمراء بالنظر إلى اعتمادها على الطوب الأحمر، غير أنها أصبحت مهددة بفقدان هذه الخصوصية بسبب اللجوء إلى الإسمنت مؤخراً.
يقول: "حاولت مديرية التعمير هناك أن تكون أول الملتزمين بخصوصية المنطقة، غير أن هذا الالتزام مفقود في محافظات أخرى".
في مدخل مدينة بودواو، 40 كيلومتراً شرق الجزائر العاصمة، تنتصب بناية ضخمة لأحد رجال الأعمال، هي مجرد طوابق فوق الحاجة من غير حديقة أو مسبح أو لمسة جمالية يمنحها لها مثلاً القرميد الذي يعد عنصراً ثابتاً في البيت الجزائري القديم، مشكّلة نموذجاً بات مهيمناً في المحافظات الثماني والأربعين، لا تكاد تظهر أمامه البيوت المبنية بذوق وحس جمالي، ما يفرض جملة من الأسئلة منها: ألم يكن صاحبها قادراً على أن يتخلى عن طابق واحد ليستغل تكاليفه في إقامة حديقة ومسبح أو دهن البناية أصلاً؟
غياب الرؤية
يقارب الباحث المعماري يوسف بوذن الظاهرة بالقول: "إذا كانت المدينة هي الأثر الجماعي الذي يشترك في كتابته أكثر من مؤلف، فإننا في غياب رؤية مبتكرة للعمران الجزائري قد شهدنا موت المؤلف الفعلي، أي المعماري، بانحسار مهمته في تحصيل لقمة العيش". الإنتاج المعماري، بحسب محدثنا، يحتاج إلى زمن وشرط آخرين. أما في هذه الحالة، فسيساهم المعماريون في نسج مدينة غبية وعارية من الرموز والتخييل. يضيف: "يمكننا اعتبار الهُجنة المعمارية التي نتألم من نتائجها الفوضوية، حصيلة ثقيلة لتهميش التفكير في المدينة وعمارتها".
وأشار يوسف بوذن إلى عجز الأرشيف المعماري الجزائري عن التحول إلى تراكم إيجابي يوفر أجوبة لائقة لسؤال: "كيف نسكن؟". "الذريعة الوحيدة للوجود لدى الجزائري هي الحصول على مكان ما "يخبئ فيه رأسه" كما يحب أن يردد دائماً عندما يُسأل عن البيت. إن التشوه بات بنيوياً، أي أننا لا ننسج إلا أشلاء مشوهة عمرانياً تشبهنا إلى حد بعيد لأنها صورتنا الغريبة مُجسدة في المكان والزمان".
في السياق ذاته يشير المصور المتخصص في التقاط ملامح المكان الجزائري محمد خريفي إلى جريمتين تقترفان في حق المبنى الجزائري، هما ترك المبنى العتيق ينهار مثلما هو حاصل لقصبة الجزائر المصنفة تراثاً عالمياً من طرف اليونيسكو، وإنشاء مبنى هجين بلا هوية ولا جماليات، في ظل غياب مريب للسلطات المعنية. يقول لـ"العربي الجديد": "لا أصور الأمكنة الجزائرية لدواع فنية فقط، بل أيضاً للتأريخ لها قبل أن يلتهمها الإسمنت، ولتنبيه المجموعة الوطنية إلى مخاطر انشغالها عن خطورة هذا الوضع، هل أخرجنا فرنسا لندمر بيوتنا بأيدينا؟".
اقــرأ أيضاً
راكم المعمار في الجزائر أو المغرب الأوسط ملامحه الخاصة من خلال حقب تاريخية كثيرة، تبادل فيها روح التأثير والتأثر مع ملامحها المعمارية، منها الفينيقية والرومانية والإسلامية والعثمانية والفرنسية، ورغم أن بعض هذه الحساسيات المعمارية الوافدة تمت محاولة فرضها في الفضاء الجزائري بالقوة، في مقدمتها الحساسية الفرنسية، إلا أن البيت الجزائري بقي محافظاً على خصوصياته التي لا تحيل إلا عليه.
هذه الخصوصيات التي أثمرها تعدد المكان، أكثر من مليوني كيلومتر مربع، واتساع الاحتكاك بالآخر وتعدد المناخ، بهرت المعماري السويسري/ الفرنسي لو كوربوزييه (1885 ـ 1965) فقدم للسلطات الفرنسية مشروعاً لتكريسها في ما تبنيه في الجزائر، فتعاملت معه على أنه يريد تخريب سياسة تمدينها للجزائريين وأمرت بطرده، مستكملة مشروعها القاضي بأن تفرض بصمتها المعمارية إلى أن غادرت عام 1962، والدليل أن وسط المدينة في الشمال الجزائري ذو طابع فرنسي صرف.
روح المكان
صمدت خصوصيات المبنى الجزائري، بيتاً كان أم مسجداً أم مؤسسة خلال العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال، ثم بدأت تصاب بجملة من التشوهات بسبب عوامل موضوعية منها النزوح الذي فرضته تجربة العنف والإرهاب في التسعينيات، حيث استقبلت المدن مناطق كاملة فرت من الأوضاع الأمنية المتردية، من غير استعداد مسبق لذلك، فبدأ يظهر منطق البناء العشوائي، ليس على هامش المدن فقط بل في قلبها أيضاً.
تتجلى مظاهر هذه التشوهات المعمارية في عدم انسجام البناءات الجديدة مع الروح السائدة في المكان، من حيث الأشكال والألوان وطغيان روح الإسمنت على حساب الجماليات وتعويض حدائق ومسابح البيوت بالمستودعات والكاراجات انسجاماً مع النزعة التجارية التي باتت تتحكم في الشارع الجزائري ما بعد الإرهاب.
رغم أن معظم الجامعات الجزائرية باتت لا تخلو من معاهد للهندسة المعمارية التي تخرّج المئات سنوياً ينتظمون في أكثر من هيئة منها "المجلس الوطني للمهندسين المعماريين"، إلا أن نسبة قليلة من الجزائريين، تلجأ إلى طلب خدماتهم قبل مرحلة البناء، فيما يتم اعتماد الأغلبية على خبرات البنائين العصاميين مباشرة، ما عزز سلطة هذه التشوهات.
لا قوانين ملزمة
نقلنا هذا الهاجس إلى أحد المستشارين في مديرية التعمير بالجزائر العاصمة، رفض الكشف عن اسمه، فقال إن الوضع يستدعي بناء هذه الثقافة من طرف منظومات معنية كثيرة، مع سن قوانين ملزمة بذلك. يقول: "رغم أن الرئيس بوتفليقة تطرق إلى الموضوع في أحد خطاباته، إلا أن المؤسسات التشريعية لم تتحرك في هذا الإطار، مكتفية بسن قانون ملزم بضرورة الحصول على شهادة تؤكد توفر المعايير المضادة للزلازل".
المسؤول نفسه قال لـ"العربي الجديد" إن الحكومة مطالبة اليوم بالتحرك لفرض احترام خصوصيات كل منطقة، بمنع كل بناء يشكل نشازاً، وأعطى مثالًا على ذلك مدينة أدرار على الحدود مع دولتي مالي وموريتانيا المعروفة بالمدينة الحمراء بالنظر إلى اعتمادها على الطوب الأحمر، غير أنها أصبحت مهددة بفقدان هذه الخصوصية بسبب اللجوء إلى الإسمنت مؤخراً.
يقول: "حاولت مديرية التعمير هناك أن تكون أول الملتزمين بخصوصية المنطقة، غير أن هذا الالتزام مفقود في محافظات أخرى".
في مدخل مدينة بودواو، 40 كيلومتراً شرق الجزائر العاصمة، تنتصب بناية ضخمة لأحد رجال الأعمال، هي مجرد طوابق فوق الحاجة من غير حديقة أو مسبح أو لمسة جمالية يمنحها لها مثلاً القرميد الذي يعد عنصراً ثابتاً في البيت الجزائري القديم، مشكّلة نموذجاً بات مهيمناً في المحافظات الثماني والأربعين، لا تكاد تظهر أمامه البيوت المبنية بذوق وحس جمالي، ما يفرض جملة من الأسئلة منها: ألم يكن صاحبها قادراً على أن يتخلى عن طابق واحد ليستغل تكاليفه في إقامة حديقة ومسبح أو دهن البناية أصلاً؟
غياب الرؤية
يقارب الباحث المعماري يوسف بوذن الظاهرة بالقول: "إذا كانت المدينة هي الأثر الجماعي الذي يشترك في كتابته أكثر من مؤلف، فإننا في غياب رؤية مبتكرة للعمران الجزائري قد شهدنا موت المؤلف الفعلي، أي المعماري، بانحسار مهمته في تحصيل لقمة العيش". الإنتاج المعماري، بحسب محدثنا، يحتاج إلى زمن وشرط آخرين. أما في هذه الحالة، فسيساهم المعماريون في نسج مدينة غبية وعارية من الرموز والتخييل. يضيف: "يمكننا اعتبار الهُجنة المعمارية التي نتألم من نتائجها الفوضوية، حصيلة ثقيلة لتهميش التفكير في المدينة وعمارتها".
وأشار يوسف بوذن إلى عجز الأرشيف المعماري الجزائري عن التحول إلى تراكم إيجابي يوفر أجوبة لائقة لسؤال: "كيف نسكن؟". "الذريعة الوحيدة للوجود لدى الجزائري هي الحصول على مكان ما "يخبئ فيه رأسه" كما يحب أن يردد دائماً عندما يُسأل عن البيت. إن التشوه بات بنيوياً، أي أننا لا ننسج إلا أشلاء مشوهة عمرانياً تشبهنا إلى حد بعيد لأنها صورتنا الغريبة مُجسدة في المكان والزمان".
في السياق ذاته يشير المصور المتخصص في التقاط ملامح المكان الجزائري محمد خريفي إلى جريمتين تقترفان في حق المبنى الجزائري، هما ترك المبنى العتيق ينهار مثلما هو حاصل لقصبة الجزائر المصنفة تراثاً عالمياً من طرف اليونيسكو، وإنشاء مبنى هجين بلا هوية ولا جماليات، في ظل غياب مريب للسلطات المعنية. يقول لـ"العربي الجديد": "لا أصور الأمكنة الجزائرية لدواع فنية فقط، بل أيضاً للتأريخ لها قبل أن يلتهمها الإسمنت، ولتنبيه المجموعة الوطنية إلى مخاطر انشغالها عن خطورة هذا الوضع، هل أخرجنا فرنسا لندمر بيوتنا بأيدينا؟".