"سيظل مخيم الزعتري محفوراً في الذاكرة السورية طويلاً، فهو العنوان الأبرز لمعاناة السوريين نتيجة عدم اكتراث العالم بهم". بهذه الكلمات يبدأ أبو أحمد حديثه عن تجربة اللجوء لعامين إلى المخيم ذي الصيت السيئ، قبل أن يقرر العودة إلى إحدى قرى ريف درعا (جنوب سورية) مع عائلته.
يعترف أبو أحمد بأنّه تردد كثيراً قبل أن يحسم أمره، "فالقرار كان صعباً. وأمضيت أياماً أبحث في الأمر من مختلف جوانبه. وتيقنت أخيراً أنّ العودة إلى الوطن حانت. فعامان من الغربة يكفيان، خصوصاً أنّ ظروف المخيم بدأت تزداد سوءاً في الأشهر الأخيرة".
أبو أحمد لا يعود وحده إلى سورية بالرغم من الحرب الدائرة فيها. فقد فوجئ كثيرون قبل فترة بحديث مدير عمليات المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في مخيم الزعتري هوفيك إتيمزيان أنّ 200 لاجئ سوري في الزعتري يتقدمون يومياً بطلبات للعودة إلى بلادهم. وجاء الحديث في الوقت الذي تزداد الأخبار والصور عن مخاطرة آلاف السوريين بحياتهم في البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى أوروبا.
كما قال إتيمزيان إنّ نحو 6 آلاف لاجئ في الزعتري غادروا المخيم، وعادوا إلى سورية في الشهرين الأخيرين. وأوضح أنّ سبب هذه الطلبات المتزايدة هو توقف معظم المنظمات الدولية الإغاثية عن تقديم المساعدة للاجئين، مبينًا أنّ الرغبة بالهجرة إلى أوروبا تعد من العوامل التي تحفزهم على المغادرة أيضاً. كما أكد ممثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في الأردن أندرو هاربر بدوره أنّ المئات من اللاجئين السوريين في مخيم الزعتري يريدون العودة إلى سورية، لأنهم يستصعبون الحياة في المخيم، كونهم ممنوعين من العمل.
كذلك، كشف تقرير تقييمي للمفوضية قبل أيام عن وجود 229 ألفاً و400 لاجئ سوري داخل الأردن تم تصنيفهم ضمن فئات اللاجئين المحتاجين للمساعدات، أي ما نسبته 37 في المائة من العدد الإجمالي للاجئين السوريين المسجلين لدى المفوضية، والبالغ عددهم 629 ألف لاجئ. ولفت التقرير إلى أنّ معظم اللاجئين السوريين في الأردن من فئة الأطفال.
من جهتها، ذكرت منظمة العمل الدولية أنّه بحلول يناير/ كانون الثاني 2015 تجاوز عدد اللاجئين السوريين المسجلين في الأردن 620 ألف لاجئ، أي ما يعادل نحو 10 في المائة من تعداد سكان الأردن. ويعيش نحو 20 في المائة من هؤلاء اللاجئين في مخيمات. وتستضيف العاصمة عمَّان ومحافظتا إربد والمفرق الواقعتان في شمال البلاد أكثر من ثلاثة أرباع اللاجئين السوريين هناك.
افتتح مخيم الزعتري في شهر يوليو/ تموز 2012 مع بدء توافد آلاف السوريين الى الأردن التي تقدر حدودها مع سورية بنحو 375 كيلومتراً. واستقبل المخيم منذ ذلك الحين أعداداً كبيرة من اللاجئين.
ويعتبر الزعتري أكبر مخيم للاجئين في العالم ككل. لكنّه اكتسب سمعة سيئة نظراً لوجوده في منطقة صحراوية لا تصلح للسكن (85 كلم شمال شرق عمان). وكان يضم نحو 100 ألف سوري، جاؤوا من مختلف المحافظات السورية، خصوصاً درعا وريفها. وواجه اللاجئون فيه ظروفاً صعبة في ظل عدم توفر أبسط شروط الحياة الكريمة، خصوصاً في بداية تأسيسه. ووصل الأمر إلى وفاة العديد من اللاجئين فيه بحوادث احتراق مختلفة، عدا عن مصاعب فصل الشتاء في السنوات الماضية والمخاطر التي تسبب بها.
وفي هذا الإطار، صدرت عدة دعوات من مثقفين أردنيين إلى إغلاق المخيم، بعدما اعتبروه يشكل "وصمة عار على جبين الأردن". كما اعتبر اتحاد المرأة الأردنية أنّ "من غير المقبول على الأردنيين وسمعتهم وعلاقتهم بالشعب السوري التاريخية وجود المخيم ووضع السوريين في العراء، حتى لو حملنا أعباء إضافية". وأكد الاتحاد أنّ الأردنيين "يشعرون بالخجل لعجزهم عن تقديم المساعدة لإخوانهم السوريين".
من جهته، بدأ أبو أحمد يتلمس طريق حياة جديدة في إحدى قرى ريف درعا. فهو لا يستطيع العودة إلى قريته التي يسيطر عليها النظام. لكنّه اطمأن من أقرباء له أنّ بيته صامد بالرغم من القصف الجوي الذي دمر بيوتاً كثيرة في القرية. يعلّق: "سأعود إلى بيتي في يوم ليس ببعيد. لكلّ شيء نهاية ولن يدوم حكم الطغاة". يضيف اللاجئ العائد الذي كان مدرساً قبل خروجه من سورية، ويتمنى اليوم العودة إلى تعليم الاولاد من جديد: "سأعلمهم التمسك أكثر بوطنهم، فهو كرامتهم كي لا يعيشوا حياة التشرد بلا وطن. شعور قاس عندما ينظر المرء ولا يرى وطناً له".
اقرأ أيضاً: دوام صباحي أو مسائي للاجئي الأردن
في المقابل، يؤكد الناشط الإعلامي أبو خالد من صفحة "الزعتري الحدث" لـ"العربي الجديد" أنّ عودة اللاجئين إلى الأراضي السورية بدأت بشكل لافت منذ نحو أربعة أشهر. ويشير إلى أنّ نحو 150 لاجئاً سورياً يغادرون المخيم يومياً معظمهم يعود إلى جنوب سورية للبدء بحياة جديدة.
ويلفت أبو خالد إلى أنّ عودة السوريين ليست حكراً على المقيمين داخل المخيم: "هناك سوريون خارج المخيم بدؤوا بالعودة بعد انقطاع المساعدات التي كانت تقدمها لهم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين". ويوضح أنّ آلاف السوريين غادروا المخيم "ليصبح عدد سكان المخيم اليوم نحو 60 ألف لاجئ، موزعين على نحو 26 ألف كرفان ضمن قواطع المخيم المختلفة، بعدما كان العدد نحو 100 ألف لاجئ سابقا". ومع ذلك، يتوقع أبو خالد أن تتباطأ موجة العودة إلى سورية بسبب التطورات الأخيرة لجهة تدخل روسيا وقصفها لمدن وبلدات سورية.
بدورهم، يتجه عدد من العائدين من المخيم إلى ريف درعا الشرقي المحرر، كمدينة بصرى الشام التي يتبعها غرباً كلّ من بلدات: معربة، وخربا، والسهوة، والجيزة، والمسيفرة، وصماد، وكحيل، والنعيمة، بعمق يقارب 40 كيلومتراً وصولاً إلى حدود مدينة درعا الإدارية، بحسب الصحافي السوري محمد العويد.
وحول سبل بداية حياة جديدة لهؤلاء العائدين، يقول: "لديهم الحدود المقبولة للعيش. بعضهم لديه أراض يزرعها، وبعضهم يعتمد على الراتب التقاعدي، ومعظمهم على المساعدات الأهلية والأممية".
ويشاطره الكاتب خليل المقداد الرأي: "يصل إلى الداخل السوري الكثير من المساعدات للمدنيين. كذلك، يعمل معظم العائدين في أراضيهم التي تركوها تحت وطأة القصف اليومي".
وفي بصرى الشام بدأ أبو محمد حياة جديدة بعد عودته من مخيم الزعتري أخيراً لأنه تعب من "اللجوء والمرمطة"، كما يقول. يضيف: "ديارنا عزيزة علينا، ولم ننسها يوماً، وبعد تحرير مدينتنا من سيطرة النظام كان لا بدّ من العودة لإعمارها من جديد".
يسير أبو محمد في شوارع مدينته ويلتقي مع أحبة له، وهو لا يكاد يصدق أنّه عاد أخيراً إلى المدينة والأرض التي يعشقها: "عامان في الأردن لم نذق فيهما طعم الراحة. أجسادنا كانت هناك، وأرواحنا لم تبارح هذا المكان إطلاقاً". كما يؤكد أبو محمد أنّ عدداً من السوريين عادوا إلى بلادهم أخيراً وأنّ "هناك من ينوي العودة ويرغب بذلك ويمنعه وجود أولاده في المدارس".
لا ينكر أبو محمد وجود صعوبات تواجه العائدين خصوصاً لجهة الغلاء في أسعار المواد الأساسية، والحصول على بيت مناسب للسكن، لكن "الحمد لله كلنا بخير، ونعيش في بلادنا وبين أهلنا، وهذه وحدها نعمة كبيرة". واليوم، لا يفكر أبو محمد بمغادرة مدينته مرة أخرى تحت أي ظرف، بل يفكر في كيفية إزالة آثار الخراب الذي تركته قوات النظام وراءها: "أحاول أن أقنع من يفكر ويخطط لهجرة أخرى نحو البلدان الأوروبية بالبقاء. هناك شباب الآن يتزوجون، ويرزقون بأطفال، فهذه البلاد لن تُهجر أبداً، وستبقى تدب بها الحياة، ولن يزيدنا إجرام النظام ومن والاه إلا تمسكاً ببلادنا بعدما عرفنا مكانتها في قلوبنا".
فور عودته إلى المدينة، شارك أبو محمد في جهود تنظيف بصرى الشام وإزالة الدمار فيها، الذي طاول حتى الأماكن الأثرية، ومن ذلك مدرجها الروماني. ويحاول الرجل أن ينسى أنّه كان في أحد الأيام لاجئاً ينظر إلى بلاده في الشمال من بعيد. والآن، ينظر إلى الجنوب، وينتظر عودة آلاف السوريين من المخيمات الأردنية، فـ"السوري لم يكن يوماً صديقاً للخيمة، لكن تجربة اللجوء المرة ستظل محفورة في ذاكرتي". وسيبقى مخيم الزعتري لفترة طويلة أحد عناوين المرحلة الأصعب في تاريخ سورية المعاصر.
اقرأ أيضاً: مفوضية اللاجئين تعد خطة للتعامل مع الشتاء بالأردن