خلال فصل الصيف، يعود إلى موريتانيا آلاف المغتربين لقضاء العطلة بين أهلهم، والقيام بجولات سياحية محلية مع عوائلهم في المحافظات الداخلية، والاستمتاع بالمهرجانات والمواسم التقليدية التي يحتفي بها الموريتانيون في كلّ صيف مثل "موسم الخريف" و"موسم الكيطنة".
ويحرص المهاجرون على قضاء عطلة الصيف في أجواء عائلية لتعويض الدفء الذي لطالما حُرموا منه خلال غربتهم، ويختارون أماكن توفّر لهم سبل الراحة والاستجمام. واحتراماً منهم للوسط العائلي وارتباطه القوي بالبادية، لا يتوانى المغتربون عن قضاء عطلهم في البادية وسط الصحراء وبالقرب من الواحات والعيون المائية. والموريتانيون يعتقدون بأنّ العودة إلى البادية تمدّ أجسامهم بالقوة والنشاط وتحميهم من الأمراض والتلوّث الذي يصيب المدن في فصل الأمطار.
محمد عالي ولد يسلم مغترب موريتاني في الولايات المتحدة الأميركية، يخبر أنّه عاد لقضاء عطلته الصيفية "مع عائلتي وأطفالي بعد غياب دام عاماً ونصف العام". وهو يحرص على قضائها "في مكان يلائم الجميع ويكون قريباً من منطقتي الأصلية حتى أتمكّن من زيارة الأقارب". ويشير ولد يسلم إلى أنّ "والدَيّ يفضّلان الخروج إلى البادية في موسم الخريف (منتصف يوليو/ تموز إلى منتصف سبتمبر/ أيلول)، إذ في إمكانهم الاستمتاع بالمناخ المعتدل في الصحراء. بالتالي لا أتردد في برمجة جزء من عطلتي في البريّة وتجهيز ما يلزم للحياة وسط الصحراء". يضيف أنّه "على الرغم من الاختلاف الكبير بين مكان إقامتي في نيويورك وبادية تيرس حيث أقضي حالياً عطلتي الصيفية، فإنّ لا شيء سوف يثنيني عن الاستمتاع بالطبيعة والجوّ الصحي في البادية وتناول الأطباق الشعبية وأقداح من حليب النوق وتمضية الوقت في جلسات مسامرة ومؤانسة بعيداً عن مغريات التكنولوجيا الجديدة".
تجدر الإشارة إلى أنّ ثمّة شباباً عاطلين من العمل يستغلّون إقبال المغتربين وعوائلهم على البادية لتأمين لقمة عيشهم من خلال قيادة السيارات أو العمل كمرشدين سياحيين وحراس في الصحراء القاحلة أو المساعدة في تأمين المياه وتدبير شؤون الطعام ونصب الخيام.
ويحيي إقبال المغتربين على البادية عادات قديمة كثيرة مرتبطة بها، وكذلك الصلات بين العوائل التي كانت تقيم في المنطقة نفسها. لكنّه بسبب ضيق ذات اليد وارتفاع تكاليف الإقامة في البرية، أصبحت رحلات الصحارى محصورة بالميسورين. ولا يتردد المغتربون في برمجة رحلة إلى البرية، وإن اقتصر الأمر على بضعة أيام، إذ من خلال ذلك يعيدون التعرّف على البادية ويسعدون عوائلهم. ويظنّ الموريتانيون أنّ قضاء إجازة "الخريف" في البادية يمدّ أجسادهم بالصحة والمناعة.
لا يقتصر قضاء الإجازة بالنسبة إلى المغتربين على زيارة الأهل ورحلات البرّ، بل العطلة الصيفية هي كذلك فرصة لإنجاز مهام عدّة من قبيل توسعة المنازل والإشراف على إصلاح مرفقاتها أو إنهاء معاملات إدارية تستلزم حضور المعنيّ شخصياً. كذلك يستغلّ المغتربون عطلة الصيف للقيام بمشاريع استثمارية تختلف طبيعتها وحجمها بحسب إمكانيات كل مغترب.
محمدو ولد اغظفنا من هؤلاء، وقد دأب على استثمار مدخراته في مشاريع تعود عليه بالنفع وتوفّر له تقاعداً مريحاً حين يقرّر العودة نهائياً إلى البلاد. يقول: "أستغل كل عطلة صيفية للاستثمار في مجالات تجارية مختلفة خصوصاً بعدما أمضيت 16 عاماً في أنغولا. ففي كل زيارة لي، أطّلع على أفضل المجالات التي يمكن الاستثمار فيها، وأصبحت لديّ خبرة كبيرة يستفيد منها أصدقائي المغتربون". ويشير ولد اغظفنا إلى أنّه بدأ بالاستثمار في مجال سيارات الأجرة قبل أن يفتح وكالات لتأجير السيارات ويتوسع نشاطه بعد ذلك ليصبح مالكاً لوكالة سفريات يديرها شقيقه. على الرغم من كلّ ذلك فإنّه ما زال متمسكاً بالعمل في الخارج، "إذ إنّني ما زلت في حاجة إلى عملي في الخارج لتأمين متطلبات الأسرة". من جهة أخرى، يستغل المغتربون العازبون عطلة الصيف لإقامة حفلات زفافهم، فيأتي فصل الصيف موسماً مزدهراً بالنسبة إلى منظمي حفلات الأعراس وكل من يعمل في مجال مرتبط بها.
يقول الباحث الاجتماعي أحمدو ولد الزين في حديث إلى "العربي الجديد" إنّ "المغتربين يحاولون الحفاظ على جذورهم الثقافية والاجتماعية من خلال الزيارات المتكررة لموريتانيا، على الرغم ممّا يعانونه من إهمال رسمي واستغلال اجتماعي لمدخراتهم". ويشير إلى أنّ "المغتربين الموريتانيين لا يعانون من أزمة هوية مثل باقي مغتربي دول المغرب العربي، بسبب حرصهم على عدم نقل عائلاتهم وأطفالهم إلى بلاد الغربة. فالزوجة تبقى مع الأطفال في موريتانيا في أغلب الأحيان، في انتظار عودة الزوج خلال الإجازات. وهو ما يعني أنّ الأطفال لا يترعرعون في مجتمعات غريبة عنهم ولا يتأثّرون بحياة اجتماعية من الممكن أن تسلبهم هويتهم".
إلى ذلك، يرى ولد الزين أنّ "بعض المغتربين يجد صعوبة في التعامل مع وسطه الاجتماعي بسبب الضغوطات التي يفرضها المحيط على المغترب وما تنتظره عائلته منه بعد سنوات الغربة الطويلة. فالجميع يرغب في الاستفادة من مدخرات المغترب، إذ الفكرة السائدة بين الموريتانيين هي أنّ المهاجرين فاحشو الثراء". يضيف أنّ "هذه النظرة لا تؤثّر فقط في تعامل المحيط مع المغترب بل لها أثرها كذلك على الشباب الموريتانيين الذين يعانون من البطالة ويرغبون في تغيير واقعهم. فنمط حياة المهاجرين الذين يعودون صيفاً إلى البلاد بسياراتهم الفارهة وجيوبهم المليئة بالدولارات، يدفع في اتجاه ترسيخ فكرة الهجرة لدى الشباب الذين يقارنون أحوالهم بأحوال أقرانهم المهاجرين".
وكانت موريتانيا قد شهدت في العقدَين الأخيرَين موجات كبيرة من الهجرة خصوصاً في صفوف الشباب من ذوي الكفاءات العلمية والمهنية الذين لم يجدوا التقدير الكافي في وطنهم. لكنّ مراقبين يرون أنّه لا يوجد مبرّر في دولة مثل موريتانيا عدد سكانها قليل وخيراتها كثيرة، لهجرة الشباب بهذه الكثافة.
ويمثّل المهاجرون الموريتانيون قوّة اقتصادية مهمّة نتيجة التحويلات المالية نحو بلادهم ومشاريعهم الاستثمارية. وعلى الرغم من أهمية الموارد المالية التي يوفّرها هؤلاء، فإنّ اهتمام الحكومة بهم لم يتطوّر في حين يطالب معنيون بفتح حوار فعلي ونقاش هادف بين المهاجرين ومختلف الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين.