وزراء التربية الوطنية الناجحون في فرنسا، هم الأكثر بحثاً عن إصلاحات ومواقف تحظى بالإجماع أو الأغلبية، وكل من حاول البحث وحيداً عن الإصلاحات، اصطدم إما برفض الجسم التعليمي النافذ أو الطلبة والتلاميذ.
وقد عرفت فرنسا في السنوات العشرين الأخيرة، محاولات إصلاح النظام التعليمي، باءت كلها بالفشل، وانسحب وزراؤها، ومن بينهم كلود أليغر، وفرانسوا بايرو وآخرون، وإذا كانت فترة جاك لانغ أكثرَ هدوءاً، فإنه كان أكثر حرصاً على مواقف توافقية، ومتفاوض عليها مع الجسم التعليمي الذي يصوت عادة لليسار.
وها هي نجاة فالو بلقاسم تناضل، من الآن وحتى الصيف، من أجل إقرار إصلاحها لبرامج التدريس في الثانويات. ويتعلق الأمر، تحديداً، وهو ما أثار الجدل أو الرفض أو القبول، بالأشكال والمحتويات التي يجب أن يكون عليها النقل والتوصيل. وهو ما يرتبط أساساً بالتصورات التي يمتلكها هذا الطرف أو ذاك عن النظام العمومي في التربية الوطنية، وإن كان النقاش المحتدّ تركَّزَ، الآن، على قضايا تدريس الإسلام في فرنسا.
والجميع، في فرنسا، ومنذ فترة طويلة، يشدد على وجوب الإصلاح، ولكن محاولة نجاة فالو بلقاسم، والتي أعلنت أنها لن تتراجع قط، معتمدة على دعم الرئيس فرانسوا هولاند، نجحت في تجميع العديد من الأصوات الرافضة لمشروعها. بالإضافة إلى 150 نائباً برلمانياً من حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية، ومن حزب الاتحاد الديمقراطي المستقل، الرافضين له، والذين وجّهوا رسالة مفتوحة إلى الرئيس هولاند، يطالبونه بسحب مشروع الإصلاح، والذي يرون فيه "غَرَقا للأُمَّة"، ارتفعت أصوات من اليمين ومن اليسار منتقدة لمشروع الحكومة، ومن بينهم وزير التربية الوطنية الاشتراكي السابق جاك لانغ، والفيلسوفان ريجيس دوبري وميشيل أونفراي ووزير التربية الوطنية اليميني السابق لوك فيري، وغيرهم.
والبند الذي يثير الكثير من الرفض والنقد هو إلغاء تدريس اللغات اللاتينية والإغريقية وأيضاً إلغاء الأقسام الألمانية المزدوجة اللغة (وهو ما أثار غضب الحكومة الألمانية، ودفع بالوزيرة نجاة فالو بلقاسم إلى تعيين مفوَّض وزاري لتشجيع تعليم اللغة الألمانية)، وتعويضه بـ "تعليم تطبيقي متعدد التخصصات مُكرَّس للغات وثقافات الماضي". وهو إصلاحٌ رأى فرانسوا بايرو، وزير التربية الوطنية اليميني السابق ورئيس حزب الموديم، أن "الأمر لا يتعلق بإصلاح، بل بهدم".
كذلك اعتبر أن اختفاء هذه اللغات القديمة من المشهد التعليمي، ستكرس "لا مساواتية جديدة. إذ لن يستفيد من هذه اللغات إلا من يدرسها في بيته".
وفي إطار هذا الإصلاح المقترح، بادر المجلس الأعلى للبرامج إلى اقتراح برامج "قطيعة" جديدة، وهي خاضعة لتقدير المُدرِّسين من تاريخ اليوم 11 مايو/أيار الجاري إلى 12 يونيو/ حزيران المقبل، ويقترح مرتكزات سنوية لمساعدة المدرّسين على إدراك دروسهم.
وفي ما يخص مادة التاريخ، والتي لا يتناولها التقرير إلا في أسطر لا تتعدى العشرة، وهو ما يمكن لبعض المُدرِّسين أن يفسروها على أنها بمثابة الحثّ على مرور خاطف على أحقاب تاريخية واسعة، على الرغم من أنّ بعض المواضيع الفرعية يتمّ تقديمُها باعتبارها إلزامية، ومن بينها بدايات ظهور الإسلام وتجارة الرقيق، إضافة إلى بزوغ اليهودية والمسيحية، مثلاً، بينما تظل المواضيع الفرعية الأخرى "اختيارية" لدى المُدرّسين، ومن بينها الحروب الدينية. وهو اقتراح ترى فيه كاميل بيدان، الأمينة العامة المساعدة في حزب التجمع من أجل حركة شعبية المكلفة بالقضايا التعليمية: "نسياننا لجذورنا (اليهودية المسيحية) من أجل شراء السلم الاجتماعي".
هذا الموقف الصادر عن مسؤولة حزب التجمع من أجل حركة شعبية، لا يختلف عن موقف فلوريان فيليبو، القيادي في حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، حين صرح بأن نجاة فالو بلقاسم هي "أسوأ وزيرة تربية وطنية منذ عقود". وعلَّلَ الأمر بأنه "مع برامج التاريخ الجديدة، ستكون المراحل الأكثر سواداً في تاريخ فرنسا إلزاميةً، بينما مراحل عظمة فرنسا ستكون اختيارية".
وأضاف: "الأنوارُ والإنسانوية وتعلم المسيحية أيضاً، كل هذه المواضيع اختيارية، بينما تعلم الإسلام وتجارة الرقيق، كل هذا إلزاميّ. على الأقل الأمورُ واضحةٌ: "يجب تدمير الرواية التاريخية، وتعليم أبنائنا أن فرنسا ليست جيدة".
ولا يبدو أن هذا الإصلاح، والذي يريده الرئيس فرانسوا هولاند، بقوة، سيُحسّن من علاقات نجاة فالو بلقاسم مع قسم كبير من اليمين الفرنسي المحافظ، والذي أعلن، منذ بداية تعيينها، على رأس هذه الوزارة المهمة، معاداته الشرسة لها، بسبب أصولها الإسلامية، إلى درجة أن مجلة "فالور أكتيال" اليمينية وصفتها بآية الله في غلاف أحد أعدادها.
ويتعرض إصلاح التعليم للنقد والتجاذب في فرنسا، بسبب التجاذب التاريخي المزمن بين يسارها ويمينها، ما يعتبر أمراً طبيعياً. لكن تواجد وزيرة فرنسية من أصول عربية وإسلامية يمنح للتجاذب توابل إضافية، لعل رشيدة داتي، وزيرة العدل السابقة في حكومة ساركوزي، تعرف، أكثر من أيٍّ كان، هذه الحقيقة المرة عن الاندماج في المجتمع الفرنسي.
اقرأ أيضاً: مسلمو فرنسا يناقشون وجودهم وعلاقتهم بالغرب