كثيرةٌ هي البسطات في سوق الأحد. ترى تجاراً يحملون بضائعهم على أكتافهم قبل فردها على طبلية صغيرة ضمن مساحة ضيقة تحددها أربعة أحجار وسقف قماشي يحميها من أشعة الشمس الحارقة في الصيف والأمطار شتاء. بعد عشرين عاماً، ما زالت الحياة مستمرة في هذا السوق الشعبي الواقع في منطقة جسر الواطي في شرق بيروت.
المشهد نفسه. لا يملّ المارة من التسكع بين أزقة السوق الضيقة والبسطات الكثيرة. يريد التجار بيع منتجاتهم وإعالة أسرهم. تعلو أصواتهم وتتداخل في ما بينها. منهم من يستخدم أسلوب "التصفير" لجذب الزائر إليه، أو تسجيلاً صوتياً لتكرار العبارة عينها. على سبيل المثال: "حرق أسعار. حذاء بـ15 ألف ليرة (10 دولارات). قرّب يا حلو". فيما يُفضّل آخرون التوجه إلى الزبون وإقناعه بشراء القطنيات، مؤكداً أنها أفضل من أي مكان آخر.
ها هو بائع الخرز منشغل بالتطريز وتزيين الأكسسوارات بالألوان الجميلة، وصاحب محل الفلافل قد بدأ بتجهيز السندويشات، وغيرهما. في السوق بسطات كثيرة، يعتاش أصحابها مما يبيعونه. وعادة ما تكون المنافسة شريفة خلال النهار. في السياق، يقول العم أبو حسن، وهو صاحب بسطة ألعاب، إن "أبواب السوق مفتوحة لمحبي سلع الماضي".
في سوق الأحد، يمكنك إيجاد كل ما قد تحتاجه وبأسعار رخيصة. تحفٌ وملابس وخرز وحلي وما إلى ذلك. يرى أبو حسن أن السوق تحول إلى متنفس للناس غير الميسورين. وعلى الرغم من التجاذبات السياسية الكثيرة التي مر بها لبنان، ما زال السوق صامداً بسبب عمل التجار الدؤوب وحرصهم على حماية أرزاقهم.
يؤكد أبو حسن أن "التجار نجحوا في حماية السوق". أمضى الرجل الملقب بصاحب القبعة الزرقاء، التي يرتديها طوال الوقت، 20 عاماً من حياته في مساحة لا تتعدى أمتاراً قليلة. حبّه للأطفال، ورغبته في رسم ابتسامة على وجوههم، دفعه إلى بيع الألعاب. يصف عمله بـ"الهواية". يستمتع بالتحدث مع الزبائن والدخول في نقاشات تجارية مسلية معهم. ويرفض تخفيض الأسعار إلا بعدما يكون قد أفرغ كل ما في جعبته من نكات وطرائف. من أكثر الجمل التي اعتاد الزبائن سماعها منه، هي: "هذه البسطة المتواضعة جعلتني جداً لـ16 طفلاً. فكيف لي ألا أحبها؟".
يبدأ أبو حسن العمل مساء الجمعة. يجلب البضاعة إلى بسطته المتواضعة، على أن يستأنف عملية البيع في صباح اليوم التالي وحتى نهار الأحد. يلفت إلى أن "المتر الواحد يؤجر من قبل مجلس إدارة الشركة المستثمرة للأرض بما يعادل عشرين ألف ليرة (نحو 13 دولاراً) أسبوعياً".
عند زاوية بسطة أبو حسن، وقفت امرأة تبحث عن لعبة "باربي" لشرائها لابنتها الصغيرة. بدت الطفلة سعيدة، لكنها أرادت شراء جميع الألعاب المعروضة. يحاول أبو حسن طمأنة الوالدة قائلاً: "بإمكانها شراء كل ما هو موجود بسعر قد لا يتخطى الـ 100 ألف ليرة لبنانية (نحو 70 دولارا)".
أما محمد، فقد بدأ العمل في السوق حين كان في الـ22 من عمره. ورث تجارة الأحذية عن والده، ويصف نفسه بـ"المحنك". يتحدث عن السوق بشغف. ينظر الى البسطات أمامه بفخر، يقول: "اطلبي ما تتمنينه. لن تخرجي من عندنا من دون تحقيق أمنياتك". يتابع: "بإمكانك التوجه إلى سوق الحمراء أو الأشرفية أو أسواق بيروت. إلا أنك لن تجدي سوقاً يجمع جميع المنتجات والسلع بسعر منخفض ونوعية جيدة". يتابع: "هنا، يمكن إيجاد عملات نقدية قديمة، مفروشات منزلية، كتب، ألعاب، ملابس، كندرجي (إسكافي)، شنط وأحذية جلدية وغيرها من البضاعة التي تجبر الزائر على الشراء حتى لو لم يكن يريد ذلك".
وما يميز سوق الأحد عن غيره من الأسواق الشعبية، هو "حب الناس لبعضهم البعض"، بحسب محمد. يضيف: "في إحدى المرات، لم يتمكن أحد التجار من شراء البضاعة بسبب مرض زوجته ونفاد المال. فعمد مجموعة من الشباب إلى جمع المال وشراء كمية من القطنيات له، حتى يتمكن من بيعها".
يحمل مالكو البسطات في السوق، الجنسية اللبنانية، علماً أن العمال قد يحملون جنسيات أخرى، وذلك بحسب قانون أصدرته الشركة المستثمرة للأرض، بهدف إفادة أكبر نسبة من اللبنانيين. يقول طالب الهندسة أحمد (20 عاماً) إنه لم يجد مكاناً أفضل للعمل من سوق الأحد. يوضح: "أعمل ثلاثة أيام في الأسبوع، وأجني نحو 10 آلاف ليرة في اليوم. أساعد في نقل البضاعة وتجهيزها".
من جهته، يقول أحد المسؤولين الإداريين في السوق، هشام محمد، لـ"العربي الجديد" إن "نظام امتلاك البسطات يطبق ضمن الشروط المنصوص عليها، بينما يمكن للعمال حمل الجنسية المصرية أو السورية. للسوق مجلس إدارة ولجنة تنظيمية تسمى اللجنة الشعبية لسوق الأحد، وتعاونية لإدارة السوق. ويوجد لدينا إدارة أمنية مؤلفة من 36 شخصا، تراقب العمل داخل السوق، وهي مسؤولة عن إعلام الإدارة بأي عمل غير أخلاقي قد يرتكبه أحد العاملين، لتقرر صرفه أو تأديبه". ويلفت إلى أن "الأرض تستثمر من قبل شركة خاصة، تدفع للدولة بدلاً شهرياً في مقابل استثمار هذه المساحة وتأجيرها".
تجدر الإشارة إلى أن سوق الأحد يقع على أرض تعدّ من ضمن الأملاك العامة النهرية التابعة لبلدية سن الفيل (شرق بيروت). إلا أن مرجعيتها القانونية هي بلدية بيروت، الأمر الذي أدى إلى نزاعات ما زالت مستمرة بين البلديتين.