تتفاقم معاناة المرضى النفسيين في السجون اليمنية من جرّاء تأخّر السلطات القضائية المعنية في البتّ في قضاياهم لأعوام عدّة كنتيجة لعدم توفّر مراكز صحية متخصصة لتشخيص الأمراض النفسية والعقلية، والذي على ضوئه تُحدَّد العقوبات المناسبة.
أحمد (50 عاماً) من بين هؤلاء المساجين المعنيّين وهو من محافظة البيضاء، وسط اليمن، سُجن قبل نحو 27 عاماً بتهمة القتل العمد، وأصدرت المحكمة العليا في حقّه حكماً ابتدائياً بالإعدام، لكن الاستئناف لاحقاً بيّن إصابته بمرض عقلي مزمن، ومنذ ذلك الوقت لم تُبَتّ قضيته. ويخبر محاميه معاذ القرشي "العربي الجديد" بأنّ "محاكمة موكلي الابتدائية تمّت في محكمة صنعاء والجوف التي أحالت ملفّ القضية إلى محكمة الاستئناف في محافظة عمران، شمالي البلاد، المختصة في قضايا مماثلة، غير أنّ مسؤول الصحة في محكمة الاستئناف دوّن في مذكّرته الموجّهة إلى القاضي المعني، أنّ إدارته غير مؤهلة ولا تملك الإمكانات لتشخيص حالة السجين، وهو ما اضطر القاضي إلى إرجاء إصدار الحكم حتى يومنا هذا". ويشير القرشي إلى أنّ "عائلة الجاني مستعدّة لدفع ديّة المجني عليه لورثته، الذين بدورهم لم يُبدوا اعتراضاً على ذلك. لكنّ المشكلة الرئيسية، حالياً، تكمن في عدم وجود لجنة مؤهلة لتشخيص حالة الجاني لكي يتمكّن القاضي من إصدار الحكم الصحيح بناءً على تقريرها". ويدعو القرشي الجهات المعنية إلى "تذليل الصعوبات والتحديات التي تواجه لجان الطبّ النفسي، من أجل رفع تقارير دقيقة عن المرضى النفسيين في السجون للبتّ في قضايا كثيرة مشابهة".
من جهته، يعيد المحامي والمستشار القانوني، إبراهيم السريحي، أسباب تراكم قضايا السجناء المرضى النفسيين في المحاكم إلى "عدم وجود نصوص قانونية صريحة في اليمن تتعلق بالسجناء المصابين بأمراض نفسية وعقلية". ويؤكد السريحي لـ"العربي الجديد" أنّ "اللجان غير المتخصصة التي تُشكّل في المحاكم تسبّبت في تضارب التقارير الصادرة عن الأطباء النفسيين في القضية الواحدة، وهذا ما ساهم في تراكم القضايا، إذ إنّ كل لجنة طبية تتألف من عدة أطباء، واحد منهم فقط متخصص في الأمراض النفسية والعقلية، وهذا أمر يفاقم من المشكلة". يضيف أنّ "المحاكم والنيابات في اليمن لا تُبدي أيّ اهتمام بالطب النفسي والعقلي، لدرجة أنّ مكتب النائب العام يخلو من إدارة لذلك التخصص الطبي أسوة بإدارة الطب الشرعي".
في السياق، يقول القاضي محمد العباسي في محكمة غرب تعز، جنوب غربي البلاد، لـ"العربي الجديد"، إنّ "غياب الأطباء المتخصصين في الأمراض النفسية والاجتماعية في محاكم اليمن، معضلة كبيرة بالنسبة إلى القضاة، إذ إنّهم يعجزون عن الإحاطة الكاملة بالحالة النفسية والعقلية لبعض المتهمين، حتى يصدروا الحكم المناسب في حقّهم، لا سيّما في قضايا الأسر أو ما يُسمى بقضايا الأحوال الشخصية". يضيف العباسي أنّ "ثبوت المرض لدى متّهم ما، يُسقط الأهلية القانونية عنه، لذلك يجب تشخيص الحالة بشكل دقيق"، مشيراً إلى أنّ "التقارير الصادرة في مثل هذه القضايا، بمعظمها، غير مستوفية الشروط، ونتيجة لذلك، فإنّ القضاة يواجهون صعوبة كبيرة في البتّ فيها ويضطرون إلى إرجاء النظر فيها مرّات عدّة". ويكمل أنّ "للطب النفسي أهمية بالغة في تعزيز العدالة الجنائية، لذلك يجب إنشاء مراكز متخصصة تكون مرجعية للقضاء".
ونتيجة تأخّر المحاكم اليمنية في البتّ في قضايا المرضى النفسيين، تلجأ بعض القبائل أحياناً إلى حلّ مشكلاتها بعيداً عن مؤسسات الدولة، لا سيّما في حوادث القتل. وفي هذا الإطار، تقول المتخصصة الاجتماعية والنفسية، هند ناصر، لـ"العربي الجديد"، إنّ "التأخر المستمر في الفصل بقضايا المرضى النفسيين في المحاكم له تداعيات خطيرة على المجتمع اليمني، خصوصاً عندما تكون القضية جريمة قتل، إذ إنّ أقرباء القتيل لا يهتمّون كثيراً بمرض الجاني ويسعون إلى الثأر منه أو من أحد أفراد عائلته بدلاً عنه، ظناً منهم أنّ الحديث عن مرض القاتل حيلة للإفلات من العقاب". وتتابع أنّه "لا بدّ للقضاة من البتّ في القضايا المنظورة أمامهم سريعاً مع توخّي الدقة، وهذا لن يحدث إلا من خلال إنشاء مراكز متخصصة بالطب النفسي والعقلي في مختلف محافظات البلاد".
ويعاني أكثر من 100 سجين في المصحّة النفسية التابعة بالسجن المركزي في صنعاء، ظروفاً إنسانية بالغة السوء، من جرّاء عدم البتّ في قضاياهم ونقص الكادر المؤهل لرعايتهم، بالإضافة إلى قلّة الإمكانات، بحسب ما يفيد مصدر في المصحّة "العربي الجديد". يضيف المصدر نفسه أنّ "معاناة السجناء تضاعفت منذ بدء الحرب في البلاد، قبل أكثر من أربعة أعوام من جرّاء انقطاع الموازنات المالية المخصصة للمصحة وتجاهل السلطات للوضع، على الرغم من كثرة النداءات التي أطلقتها المصحّة".