في ظل انتشار العنوسة في مصر بسبب الظروف الاقتصادية التي تعيشها البلاد، مع ارتفاع حدة البطالة وغلاء المعيشة وقلة المساكن وغلاء أسعارها، ازدادت خلال الأشهر الماضية الإعلانات في الميادين العامة ووسائل المواصلات التي تدعو إلى اختيار شريك حياة.
تتعدد الملصقات وشعاراتها، من بينها "يمكنك اختيار شريك حياتك.. لدينا كل الأعمار.. سيدات.. آنسات.. مطلقات.. أرامل.. موظفات.. يمكنك اختيار نصفك الآخر فقط بالحضور وملء الاستمارة.. لا تتردد اتصل على الرقم ...". واحد من تلك الملصقات، جاء فيه: "مفاجأة.. أكبر وأشهر مكتب زواج في العالم.. لدينا جميع المستويات والأعمار.. نجعلك تقابل شريك الحياة المناسب في الحال مهما كانت ظروفك وسنك".
وقد تبيّن أنّ مكاتب كثيرة تبغي الربح المادي مستغلة الشابات الضحايا، نظراً لظروفهنّ الاقتصادية، في أعمال دعارة. كذلك، فإنّ تلك المكاتب هي وراء انتشار ظاهرة الأطفال بلا هوية، على خلفية الزواج العرفي الذي لا يوثّق. وقد وصل عدد هؤلاء أمام محاكم الأسرة إلى أكثر من 150 ألف طفل، بدون وجود قانوني ولا رسمي لهم، بعدما رفض آباؤهم الاعتراف بهم.
في هذا الإطار، يوضح المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أنّ أكثر من 70% من تلك المكاتب تعمل بأسلوب منحرف وبلا تراخيص، وأنّ ثمّة عدداً كبيراً من المحامين فتحوا مكاتبهم تلك لأعمال وصفها بـ"الإجرامية"، والسبب أرباحها الكبيرة. يأتي ذلك بعدما كثرت مكاتب المحاماة وركود أعمال كثير منها. ويشير المركز إلى أنّ تلك المكاتب تستغل شابات من فاتهنّ قطار الزواج بسبب تقدمهنّ في السن، أو تعمد إلى الاتجار بأخريات نظراً لظروفهنّ الاقتصادية. وبيّن المركز أنّ ثمّة أكثر من 150 ألف طفل تصطحبهم أمهاتهم يومياً إلى المحاكم، بسبب عدم حيازتهم على شهادات ميلاد وعدم اعتراف أحد بهم. يُذكر أنّ هؤلاء لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس ولا التقدّم إلى عمل في المستقبل.
وفي تقرير، يكشف المركز أنّ ثمّة زوجات متهمات في قضايا جنائية بسبب مكاتب الزواج تلك، إذ إنّ منهنّ من يجمع بين أكثر من زوج في وقت واحد، بمعرفتهنّ أو بدونها، وأيضاً بسبب العمل في الدعارة. كذلك وصل عدد البلاغات المقدمة من بعض النساء إلى أقسام الشرطة والمنظمات النسائية في مصر ضدّ تلك المكاتب، إلى أكثر من 2500 بلاغ منذ شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وحتى يومنا. ويؤكد تقرير المركز أنّ ما خفي أعظم، إذ إنّ أسراً كثيرة تخشى من الفضيحة ولا تبلّغ الجهات المسؤولة. كذلك فإنّ مصير نساء كثيرات هو القتل من قبل أهلهنّ، خصوصاً في الأرياف والقرى. ويحمّل المركز القومي الحكومة مسؤولية ترك تلك المكاتب تعمل بحرية وعدم القبض على أصحابها وتقديمهم للمحاكمة الجنائية، بسبب الجرم الكبير الذى ارتكبوه في حق عدد كبير من النساء.
فى سياق متصل، تؤكد رئيسة جمعية نهوض وتنمية المرأة الدكتورة إيمان بيبرس أنّ "أكثر الزيجات التي تثمر أطفالاً غير معترف بهم، هي لمصريات فقيرات وصغيرات في السن من أثرياء عرب ومصريين أيضاً". وتشير إلى أنّ "المحاكم المصرية نظرت في نحو 1558 قضية إثبات نسب رفعتها مصريات ضدّ أزواجهنّ خلال عام 2015، فيما احتلت محافظة الجيزة المرتبة الأولى بين المحافظات المصرية في انتشار مكاتب الزواج، سواء تلك التي تعتمد العرفي أو تلك التي تستغل الشابات في الدعارة".
وتقول بيبرس إنّ عدداً من الجمعيات النسائية تهيئ لنقاشات مع منظمات من المجتمع المدني، بهدف فضح نشاط تلك المكاتب، من أعمال إجرامية تقترفها ضدّ النساء أو من مكاسب مادية تجنيها من زيجات فاشلة. وتؤكد أنّ لدى المنظمات النسائية أسماء تلك المكاتب وعناوينها، مطالبة الحكومة "بالتدخل سريعاً لوقف عمل تلك المكاتب قبل أن تتحول إلى ظاهرة اجتماعية". وتشير إلى أنّ "عددها ارتفع بطريقة كبيرة بعد ثورة 25 يناير، وأكثر بعد اشتداد الأحداث في سورية ولجوء سوريات كثيرات إلى مصر ورواج زواجهنّ من مصريين".
إلى ذلك، ثمّة تقارير عديدة، منها أمنية للهيئات الحكومية، تشير إلى أنّ نسبة الأطفال مجهولي النسب في ازدياد مضطرد خلال السنوات الخمس الأخيرة، وتحذّر من أنّ أطفال الشوارع من مجهولي النسب هم أطفال بدون مأوى، وهم قنابل موقوتة من المتوقّع أن تنفجر في وجه المجتمع. وتؤكد تلك التقارير أنّ نساء كثيرات كنّ قد تزوّجن من خلال تلك المكاتب، يهربن من المستشفيات بعد الولادة، ومنهنّ من يبعن مواليدهنّ بالتعاون مع سماسرة بيع أطفال داخل المستشفيات، إذ إنّهم من زيجات غير موثقة.
من جهته، يقول الدكتور سيد إمام من المركز القومي للبحوث: "نحن أمام كارثة اجتماعية اسمها زواج المكاتب، بعد انتشار الإعلانات في الشوارع والميادين علناً"، مطالباً الجميع والدولة ضمناً بمواجهة تلك المكاتب. ويؤكد أنّ "كثيرة هي المكاتب التي تعمل في الخفاء وتتستر بغطاء أعمال أخرى مثل مكاتب المحاماة"، موضحاً أنّ "نسبة العنوسة في مصر تجاوزت 30% في مصر بسبب ظروف اقتصادية محبطة تحيط بالشباب، لا سيما البطالة، وهو ما أدى إلى انتشار الممارسة الجنسية غير الشرعية". ويحمّل الدولة مسؤولية تفشي ظاهرة العنوسة.
ويشدّد إمام على أنّ "زواج المكاتب مبني على عملية تجارية لا تمتّ إلى العلاقات الاجتماعية بصلة، وأنّ فكرة هذه المكاتب قائمة على الاستقطاب المادي وهي ليست على أسس علمية مدروسة"، لافتاً إلى أنّه لن يقضي على مشكلة العنوسة بل سيفتح الباب لثقافة الزواج المتعدد والزواج العرفي.
وعن رأي الدين، يدعو عضو جبهة علماء الأزهر الدكتور يحيى إسماعيل إلى "ضرورة غلق هذه المكاتب فوراً"، متهماً الدولة بأنّها "في غيبوبة وبأنّها تترك الشباب والشابات لزواج مبني على باطل. وهذه المكاتب ستار للدعارة وممارسة الرذيلة". ويشير إلى أنّ "لهذا الزواج آثاراً سلبية، من بينها ضياع حقوق الزوجة، خصوصاً في الزواج العرفي وعدم اعتراف الأب بالطفل. من هنا، فإنّ دعواها بأي حق من حقوق الزوجية لا قيمة لها أمام القضاء، لعدم وجود وثيقة زواج رسمية".