كنّا صغاراً يوم كان لشهر رمضان رونقه الخاص في الموصل. كان ذلك قبل ثلاثين عاماً أو أكثر. كانت المدينة العتيقة تستقبل الشهر الفضيل وكذلك سكّانها، في لوحة روحانية فريدة.
مثلنا مثل أهلنا في محلة "حمام المنقوشة" القريبة من الجامع النوري الكبير، وسط مدينة الموصل القديمة، كنا نترقّب دورنا لشراء الدشداشة البيضاء والعقجين (غطاء الرأس). كان الأهل يحاولون من خلالهما تحفيزنا، ونحن صغار، على الصيام في عزّ لهيب الصيف.
فور التماس هلال رمضان، كانت التكبيرات والصلوات تتصاعد، معلنة بداية الشهر وداعية إلى صلاة التراويح. البعض كان يقصد الجامع النوري الكبير، أمّا بعضنا الآخر فمسجد أم التسعة القريب. هناك، كان يؤمّ بنا الشيخ، إسحق السنجري، عمّ والدي، رحمه الله. كان رجلاً درويشاً متعبداً زاهداً، "من أهل الله"، وله مواقف مع أهالي المحلّة يشهد لها كثيرون من أبنائها ممن عاصروه.
كنّا نتباهى بملابسنا البيضاء الناصعة، قبل أن نرجع منهكين إلى البيت بصحبة العمّ، الحاج محمد أمين السنجري، بعدما لعبنا في باحة المسجد وقطفنا أوراق كرمة العنب من حديقته الصغيرة. بتلك الأوراق تُعَدّ "الدولمة" الموصليّة الشهيرة.
في تلك الفترة، كنّا ننتظر الصباح على أحرّ من الجمر لكي نحصل على اليوميّة (مصروفنا)، التي تأتي مضاعفة خلال الصيام، وبها كنّا نشتري ما لذّ وطاب من حلويات بسيطة منزلية الصنع، أو نقصد محلّ حازم دعبوبة لشراء المرطبات. كان محله على مقربة من محل جبار حولي للمواد الغذائية، مقابل الجامع النوري، وكان ذلك يمثّل تحدياً كبيراً إذ علينا عبور شارع الفاروق العتيق حيث تنشط حركة السيارات.
كانوا يشجّعوننا على الصيام من خلال تلك اليومية المضاعفة أيضاً، من الوالد حيناً ومن العمّ حيناً آخر. أمّا "أدسمها" فمن الجدة، وكانت تصل إلى مائة فلس في بعض الأحيان. كنا نحتار ما بين شراء "العلوجة" أو "الشرابت"، وهما نوعان من الحلويات المصنوعة منزلياً من الدقيق والسكر مع الأصباغ، والتي تباع للأطفال في هذا الوقت من العام. كنّا نفضل الشرابت وكنا نضعها في صينية صغيرة، ونطوف بها ونصيح "شرابت أطيب شروب"، على الرغم من أنها كانت تؤكل ولا تُشرب. وبعد بيع ما تبقى من تلك الحلويات، أو وهبها إلى آخرين من أبناء المحلة وبناتها، كنّا نطارد المفطرين ونمطرهم بردّيات من قبيل "الصايم شي شي ..والمفطغ كديشي".
بعد صلاة العصر، كنّا نقصد مكتبة "قرطبة" الذي يملكها عمّي، الحاج محمد أمين السنجري. كانت من أقدم مكتبات شارع الفاروق. هناك، كنّا ننتظر صمون الإعاشة الساخن، ونساعد في تعبئته في أكياس من النايلون وبيعه في المحلّ القريب من المكتبة. وفي بعض الأحيان، كنّا نساعد في تجليد الكتب المدرسية في المكتبة وبيع بعض المجلات.
ومع اقتراب أذان المغرب، كنّا نتوجّه إلى منطقة حضيرة السادة، التي تُعَدّ مدخلاً إلى حيّ المشاهدة وجامع السلطان ويس. هناك، كانت الفواكه والخضروات الطازجة، التي لم تكن تعرف يوماً الأسمدة الكيمياوية. أكثر ما كان يعجبني هو "الرقّي" أو البطيخ الأحمر، الذي نطلق عليه في الموصل "الشمزي" أو "الدبشي". كنّا نشتريه من صاحب عربة خشبيّة، بعدما نسأله عن ثمنه: "عمو بشقد هذا عكس الشمزي؟". وذلك البطيخ الطازج مذاقه حلو وحامض في الوقت نفسه، وكان يُزرع في المناطق القريبة من الموصل. كذلك، كنّا نشتري منقوع الزبيب ومنقوع السوس، من محلّ "طرشي الحدباء" المجاور للجامع النوري الكبير أو من منطقة المكاوي.
لم نكن نفكّر بالطعام بقدر تفكيرنا بالمياه والأنواع المختلفة من المنقوع الطبيعي البارد. وفي طريقنا، لم نكن ننسى شراء اللبن من منزل عمّو سمير الدب، الذي كان يخثّر اللبن في الباطية. بعدها، كنّا نسرع إلى البيت. كانت روائح الطعام تصيب أنوفنا مباشرة، ونخمّن ماذا طبخ الجار الفلاني والجار العلاني، فنحن سوف نتذوّق طعامهم، إذ كان الجيران في ذلك الوقت يتبادلون الأطباق بين بعضهم بعضاً. هكذا كانت مأدبة الإفطار تمتلئ بكلّ ما لذّ وطاب من الأطباق والحلويات والفواكه، وكانت نساء المحلة يتباهين بما جادت به أيديهنّ من أكلات بنكهة موصلية خاصة.
ما إن تجتمع العائلة حول المائدة، بإشراف الجدة، حتى كانت أعيننا تتّجه نحو الماء والعصائر وأنواع المنقوع المختلفة، بعد ظمأ رافقنا طوال النهار. كان ذلك يتمّ في الحوش (باحة المنزل)، فيما ننتظر الأذان. البعض كان ينتظره على السطح، على الرغم من قرب المسجد. أمّا أعمامي ووالدي، فكانوا ينتظرون عند باب المنزل، لعلّ أحد المارة تأخّر في الوصول إلى منزله، ويدعونه إلى الإفطار. يُذكر أنّ محلّتنا كانت تتألّف من أقارب وأنسباء. ولعلّ أكثر ما يميّز أهل الموصل هو المصاهرة المتداخلة بين العوائل والعشائر والبيوتات.
في باحة المنزل، كنّا نضع جهاز تلفزيون، فتبدأ السهرة مع المسلسلات، التي كانت تأخذ الحيّز الأكبر من اهتمام جميع أهل المحلّة. وتشهد على ذلك الشوارع والأزقة الخالية في وقت العرض. ومع انتهائها وعودة لاعبي "المحيبس" و"الفر" من المقاهي وتجمّعات الشبّان في زقاق المحلة، كنّا نصعد إلى أسطح المنازل وكلّ واحد إلى تخته (سريره) الخشبي، فيما نضع جرار الفخّار على ستارة (تنك) السطح لتبريد المياه حتى يحين موعد الإمساك.