في عهود بائدة، كانت السيطرة على الإذاعة الرسمية، أو التلفزيون الرسمي، كافية من أجل إعلان نجاح انقلاب على الحكم. الإعلام الرسمي الذي كان يدخل إلى بيوت الكثير من الناس كان رمزاً أساسياً للسلطة المطلقة. أما الناس فيتلقون، ولا يملكون إلاّ أن يشجعوا ويُعجبوا ويُطربوا، أو يحتجوا بينهم وبين أنفسهم على ما يتلقون من أغانٍ وأخبار ومسلسلات وبرامج وحتى انقلابات.
هذه الصورة استعيدت أكثر من مرة في السنوات العشرين الأخيرة مع انتشار الإنترنت للدلالة على أنّ عصر السيطرة على الصورة والكلمة قد بات خلفنا تماماً. وبالفعل، ازداد التقدم التكنولوجي ليصل بنا إلى المواقع الإخبارية والخدمية المتنوعة، والبث التلفزيوني، والمنتديات والمدونات والماسنجر، ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تطورت لتصبح في جيب كلّ منا داخل آلات أطلقنا عليها اسم "ذكية".
ماذا تفعل هذه الوسائل كلّها؟ هي ببساطة بديلة عن أنظمة تقليدية كثيرة. هي بديلة عن الإعلام التقليدي بورقه وشاشاته... وحتى بمواقعه الإلكترونية أيضاً. هي بديلة عن العلاقات التقليدية بين الأفراد. بديلة عن الاجتماعات. بديلة عن المقاهي. بديلة عن النشاطات نفسها.
وحتى بالنسبة للمبدعين في مختلف المجالات، مهما كانت درجة إبداعهم، هي بديلة عن شركات الإنتاج ودور النشر. ولو أنّ الأجواء العامة في البلدان المستهلكة للتكنولوجيا تهيئ للمستخدم أنّ تلك الشركات والدور ما زال لها السطوة الأكبر التي تحتكر الشهرة، خصوصاً أنّ الدعاية والرعاية ما زالت مرتبطة بها بصفة احتكارية متبادلة.
المميز في هذه الوسائل أنّها كسرت احتكارات لا حصر لها في كلّ المجالات. والأكثر تطرفاً أنّها باتت بديلة عن التربية نفسها وعن التعليم نفسه، أو على الأقل، بات لها تأثير كبير جداً في أيّ مستخدم لها. ولا مانع من انتباه المسؤولين عن التربية إن كانت في المنزل أو المدرسة إلى هذه المؤثرات وعدم إنكارها، فهي تزداد تأثيراً يوماً بعد يوم في مختلف الأحوال.
إحدى أغرب التقنيات الأخيرة بث الفيديو المباشر. الخريطة أمامك تكشف نقاطاً زرقاء مضيئة. تستمع عبرها إلى لغات عديدة، وقد تشاهد ما تعتبره غباءً من مختلف أنحاء العالم. لكن، لا أحد يمكنه أن يمنع ذلك، فالهواء مفتوح للجميع، للتعبير بالغناء والرقص والطبخ والصراخ والقفز على السرير والشتائم وحتى الوعظ الديني وغير ذلك كثير جداً. ولا مجال للحديث عن "فطرة سليمة" أو "بديهيات" في تصنيف ما الجيد وما السيئ في هذا المقام، فالأمر ليس في يد أحد منا.
هناك شيء ما يتغير... هناك محطات بث مباشر في رأس 7 مليارات إنسان، جاهزة لبدء إرسالها إلى كلّ بقعة في هذا الكوكب، عند الضرورة.