تعالت مطالب "الزنوج"، أو الأفارقة من الموريتانيين، في الفترة الأخيرة لإعادة النظر في خطة جبر الضرر التي نفذتها الحكومة لتعويض "الزنوج" الذين عُذّبوا وطُردوا إلى السنغال إبان الحرب العرقية بين البلدين. وعلى الرغم من حساسية الملف الذي كان حتى وقت قريب من القضايا الشائكة، إلا أنّ حجم معاناة "الزنوج" المبعَدين خلال الحرب العرقية دفعت الموريتانيين إلى مساندتهم وإرغام السلطات على فتح الملف وطرحه للنقاش.
تواجه حكومة نواكشوط انتقادات لاذعة بسبب طريقة معالجة ملف ضحايا الحرب التي دارت بين موريتانيا والسنغال، فيما يرى عدد كبير من المتهمين في القضية أنّ طريقة معالجة هذا الملف لم تسمح بإغلاقه بالشكل المطلوب وتشجيع "الزنوج" على الانسجام في المجتمع الموريتاني. كذلك فإنّ عمليات تعويضهم عن الأراضي التي هجّروا منها والسنوات التي أمضوها في مخيمات اللاجئين في السنغال، شابتها خروقات وتجاوزات كثيرة.
في قرية حاسي بكره، وهي إحدى القرى التي استقبلت "الزنوج" العائدين، يعمل عبدو فال (49 عاماً)، مزارعاً بالأجرة في أراضٍ مملوكة لمستثمرين ليسوا من منطقة سيليبابي الزراعية (جنوب موريتانيا)، وهو ما يرفضه عدد كبير من الزنوج الذين كانوا يعيشون من خيرات هذه الأراضي قبل أن يفرّوا من أعمال عنف ضدهم ويعيشوا لسنوات في ملاجئ السنغال ومالي.
يقول فال إنّه غير راض عن التعويضات التي قدمتها الحكومة لضحايا عانوا من العنصرية وأعمال القتل والتعذيب، مشيراً إلى أن التعويضات كانت على شكل مبالغ مالية ومساعدات عينية، لكنها لم تكن كافية لتعويض الضحايا بعد 19 عاماً من الغربة القسرية. يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّ "بعض (الزنوج) تمكنوا من العودة بشكل طوعي بعد انتهاء المواجهات واستعادوا أراضيهم الزراعية، بينما فضّلت الغالبية انتظار اعتراف الدولة بمسؤوليتها عن الأحداث وإقرار العدالة والتعويض عن الأضرار". ويشدد على أنّ الزنوج العائدين ينتظرون إنجازات كبيرة تمسّ حياتهم اليومية، و"يأملون أن تعمل الحكومة على توفير ظروف عيش لائقة ومستدامة لدمجهم في بيئتهم الاجتماعية، وإعادة الثقة إلى العسكريين والموظفين الذين فصلوا لأسباب عنصرية، وتحقيق المصالحة، حتى لا يبقى مكان للأحقاد".
تعود قضية الزنوج إلى عام 1989 حين اندلعت حرب عرقية بين موريتانيا والسنغال وطردت الأولى آلاف الزنوج الذين كانوا يعيشون على ضفاف نهر السنغال، جنوب البلاد، إلى داخل دولة السنغال، على أساس أنّهم زنوج قدموا من السنغال وتكاثروا في موريتانيا. بالتالي، عاش هؤلاء في ملاجئ في السنغال ومالي، وبعد انتهاء الحرب العرقية بين عرب موريتانيا وزنوج السنغال، عاد عدد قليل منهم فيما ظل الآخرون ينتظرون إعادتهم الى مناطقهم الأصلية وتعويضهم عما تعرضوا له. وبعد 18 عاماً من اللجوء، أعلنت الحكومة الموريتانية عن خطة لإعادة المبعدين وتعويضهم عما تعرضوا له من تعذيب وإهانة وطرد وكذا سنوات اللجوء، كذلك قدّمت اعتذاراً رسمياً للضحايا وذويهم ووعدت بتوفير ظروف حياة كريمة لهم.
على الرغم من المخاوف التي أبداها عرب موريتانيا من تأثير عودة المبعدين على التوازن العرقي في البلاد واستغلال زنوج من جنسيات أخرى هذا الملف لادعاء انتمائهم إلى فئة المبعدين والاستفادة من الامتيازات التي سوف تُمنح لهم، إلا أنّ الجميع كان يأمل طيّ ملف المبعدين بشكل نهائي لتحقيق المصالحة الوطنية. لكنّ التلاعب بالمساعدات المخصصة للمبعدين وفشل سياسة جبر الضرر، لم يساعدا على إغلاق ملف العائدين بشكل نهائي، في الوقت الذي يرى المراقبون أنّ إغلاق الملف ما زال بعيد المنال وسوف يبقى معلقاً بدون حلول جذرية.
في هذا الإطار، يقول الباحث الاجتماعي، محمد يحيى كانو، إنّ "طريقة معالجة ملف الزنوج المبعدين ورفض عودة أعداد كبيرة من مالي إلى وطنهم واستمرار معاناة بعضهم من التشرد والضياع، أمور تقف حاجزاً أمام معالجة هذه القضية وإغلاق الملف". يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّه "خلال الأحداث العرقية، طُرد الآلاف من وظائفهم وأبعِدت أسر بكاملها إلى خارج البلاد، لتقضي أكثر من 18 عاماً في مخيمات اللجوء في السنغال. وحين اعتذرت الدولة عما لحق بهم وأعلنت عن خطة لتسوية ملف الإرث الإنساني، حصل تلاعب بالتعويضات المادية وبملكية الأراضي المخصصة للزنوج، فيما واجه العائدون واقعاً صعباً بسبب العنصرية وموجة الرفض التي اجتاحت المناطق التي استقبلتهم، خصوصاً القرى التي لم تعمل السلطات فيها على توعية السكان بأحقية العائدين في الأراضي ومشاركة الآبار والبحيرات مع غيرهم من المزارعين جنوب البلاد".
يرى يحيى كانو أنّ "عدم انسجام العائدين مع محيطهم ونظرة الآخرين إليهم والتلاعب الحاصل في ملف الإرث الإنساني، عوامل تقف في وجه المصالحة وجبر ضرر الضحايا الذين تأذوا من تلك الأحداث. كذلك فإنّ عدداً كبيراً من العائدين ما زال ينتظر كشف حقائق الأحداث وتحديد المتورطين في قتل أهاليهم، وهو ما يطرح تحدياً جديداً أمام السلطات التي تحاول محو هذا الجرح الغائر من ذاكرة الموريتانيين". ويطالب بفتح ملف اللاجئين وماضي حقوق الإنسان في الجنوب، "لمنع استغلال البعض لهذه القضية في إثارة النعرات العنصرية وإحداث شرخ بين مكوّنات المجتمع"، داعياً إلى "تعزيز ثقافة التعايش والوئام بين العرب والزنوج في البلاد".
وكان إهمال ملف اللاجئين قد اتُّخذ مطية لانتقاد سياسة موريتانيا تجاه الزنوج، والمطالبة باستقلال ذاتي في المناطق ذات الأغلبية الزنجية، ورفض سياسة الدولة الخاصة بفرض التعريب في الإدارات العمومية، وإصلاح التعليم باعتماد نظام واحد بدل نظامين عربي وفرنسي.
ويحذّر المراقبون من إذكاء نار الفتنة بين العرب والزنوج الذين تكاثروا في موريتانيا بسبب الهجرات الأفريقية وفتح المجال أمام اليد العاملة للرفع من تعداد السكان، فيطالبون بالتالي بمعالجة مشكل الفوارق الطبقية بين العرب والزنوج وتمكين العائدين من الاندماج الفعلي في النسيج الاجتماعي. يُذكر أنّ موريتانيا استقبلت في إطار اتفاق ثلاثي بينها وبين السنغال ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 24 ألف لاجئ يتوزّعون على 5720 أسرة، أوتهم في 120 قرية في خمس محافظات من جنوب البلاد ووسطها.