يشير خبراء إلى أنّ 80 في المائة من الرجال العراقيين الذين يلازمون منازلهم بسبب الوضع الأمني في البلاد، يعانون من حالة نفسية مضطربة ومن تفاقم مشاكلهم الأسرية
في ظلّ الأوضاع الأمنية المتوترة، يعاني رجال العراق. البعض ترك البلاد. آخرون لم يتمكّنوا من ذلك، فانتقلوا إلى مدينة أخرى لعلّهم يعيشون فيها بأمان. أمّا الذين لم يتمكنوا من الانتقال حتى داخل البلاد، فقد اضطروا إلى ملازمة منازلهم حفاظاً على حياتهم، على حدّ قولهم.
ثلاثة أشهر متتالية لم يرَ خلالها فيصل (52 عاماً) الشارع. التهديدات التي تصله أجبرته على ملازمة المنزل تاركاً عمله في بيع المواد الغذائية، حتى ظنّ جميع من يعرفه أنّه سافر وترك البلاد. يقول: "عملي في المتجر كان ممتازاً. لم أكن أتغيّب ولا ليوم واحد ولا حتى لساعات إلا في حال كنت مضطراً إلى الالتزام بشأن عائلي".
ويخبر أنّه خلال الاحتلال الأميركي للبلاد، "ترك بعض سكان منطقة الفضل - حيث أقيم - بيوتهم، بعد أزمات عدّة في هذه المنطقة التي قاومت الاحتلال. لكنّني على الرغم من ذلك بقيت فيها إلى أن حدث ما لم أتوقّعه". يضيف فيصل أنّ "عدد القاطنين في المنطقة التي تُعدّ واحدة من أقدم مناطق بغداد الشعبية، تقلّص. فكثيرون اتُّهموا بأنّهم إرهابيون وتعرّضوا للملاحقة بين حين وآخر. وبعد فترة، وجدت نفسي في دائرة الاتهام نفسها. حينها، تأكدت من أنّ التهم بمعظمها كيديّة. بعضها بسبب ما نسمّيه نحن حسد عيشة، وبعضها بسبب خلافات قديمة".
ويتابع أنّ كثيرين اضطروا إلى المغادرة، أمّا أنا فبقيت حبيساً في منزلي. لا أخرج ولا أعمل. وإذا قُرع الباب، لا أخرج إلا في حال عرفت من هو الزائر ومدى ثقتي به". ويشير فيصل إلى أنّ أهله تحمّلوا مسؤولية عائلته بدلاً عنه لثلاثة أشهر، مؤكداً أنّ "انتقالي إلى مكان آخر صعب للغاية. فأنا لا أستطيع ترك عائلتي ولا أستطيع في الوقت نفسه اصطحابها معي. نحن جميعاً نرفض الانتقال ونرى في ذلك صعوبة بالغة، أكبر بكثير من صعوبة بقائي في المنزل طوال الوقت".
من جهته، كان أبو يقين (47 عاماً) يعيش في مدينة بعقوبة في محافظة ديالى (شمال شرق). يقول: "كنت أعمل سائقاً لإحدى المنظمات الدولية الناشطة في المجال الإنساني. وسوء الوضع الأمني في ديالى يعرفه الجميع، لكنّ لقمة العيش تتطلب العمل والمجازفة".
اقــرأ أيضاً
يضيف: "ازداد الوضع سوءاً عندما بدأت التهديدات تطاول عائلتي. إمّا أن أترك العمل أو يكون الثمن رقبتي أو رقبة أحد أبنائي. وبالفعل، تركت العمل. لكنّ صحة والدتي لا تسمح بالانتقال والسفر، لذا بقينا في ديالى وصرت ألازم بيتي ولا أخرج سوى مرة واحدة في الأسبوع. الساعات القليلة التي كنت أقضيها خارجاً كانت تشبعني بالأكسجين، على الرغم من خطورتها علـي حياتي". ويتابع أنّه بقي على هذه الحال "لمدة عام ونصف العام تقريباً، على الرغم من القلق الذي كان ينتاب العائلة أثناء تلك الساعات التي أقضيها عند أحد الأصدقاء. وبعدما توفيت والدتي، رحمها الله، قررت مغادرة مدينتي. حزمنا حقائبنا بعد انتهاء مجلس العزاء وتوجّهنا إلى الشمال". بالنسبة إلى أبو يقين، فإنّ "الرجل يفقد هيبته وكرامته إذا بقي ملازماً بيته، حتى وإن لم يشعره من حوله بأنّه ثقل عليهم".
أمّا ثائر الشمري (39 عاماً) وهو تاجر لحوم مستوردة، فيقول إنّ "زوجتي تشتكي من وجودي في البيت، بعدما كان ذلك يسعدها في البداية". ويخبر أنّه "بعد النزوح، لم أجد أمامي غير إدارة عملي عن بعد. وهذا ما جعلني أمكث في المنزل معظم الوقت، فلا أخرج منه إلا لزيارة الأقارب والأصدقاء من حين إلى آخر". يضيف: "قبل النزوح، كنت أعود إلى المنزل في وقت متأخر بسبب مشاغل العمل، فألهو قليلاً مع الأطفال من دون أن أهتمّ بأيّ شيء يخصّ تربيتهم أو شؤون البيت. لكنّ زوجتي اليوم أصبحت تشتكي مني كثيراً وتقول إنّني أتدخّل بكلّ صغيرة وكبيرة".
ويشدد الشمري على "ضرورة أن يعطي الرجل زوجته مساحة لقضاء بعض الوقت مع نفسها، وألا يكون بقاؤه في المنزل سبباً في تقييدها. لكنّني اضطررت إلى ذلك، ولم أنتبه إلى أنّني تحوّلت إلى رجل بيتوتي، مثل أولئك الذين يتعبون زوجاتهم بكثرة تدخّلاتهم وطلباتهم التي لا تنتهي. وذلك أمر يجعل نساءهم يكرهنَ وجودهم المستمر في المنزل". ويتمنّى أن "يتحسّن الوضع الأمني، لأخرج إلى العمل. فحالتي النفسية ساءت مذ أصبحت جزءاً من أثاث منزلي".
"من جلس في داره، قلّ مقداره" يقول الناشط إبراهيم محمود (27 عاماً) المتخصص في علم النفس الاجتماعي. ويوضح أنّه "على الرجل أن يخرج ويعمل ويعود إلى منزله في أوقات معيّنة، غير أنّ الأمر يختلف في هذا البلد المصاب بداء الحروب". يضيف أنّ "الرجال لا يملكون جميعاً المال للسفر أو الانتقال للعيش في مناطق أخرى غير مناطقهم المضطربة التي تعصف بها الحروب ويجتاحها الدمار والتهديدات. وهذه الأسباب مجتمعة جعلت كثيرين من الرجال يلازمون منازلهم مرغمين لأشهر كثيرة ولا يخرجون إلا للضرورة".
ويتابع محمود أنّ "هذه الحالة تتعب الرجال كثيراً وتؤثّر سلباً على نفسياتهم وبالتالي على عوائلهم. كثيرون منهم يتحوّلون من رجال هادئين إلى رجال ذوي مزاج متعكّر، إذ يشعرون بأنّ لا قيمة لهم بعدما فقدوا دورهم وسلطتهم وعملهم". ويلفت إلى أنّ الرجل في هذه الحالة، يشعر بأنّ زوجته التي تؤدّي واجبها المنزلي كلّ يوم أفضل منه بكثير، لا بل أصبح هو عبأً عليها وعلى أبنائه الذين لم يعودوا يخشونه كما في السابق".
اقــرأ أيضاً
في ظلّ الأوضاع الأمنية المتوترة، يعاني رجال العراق. البعض ترك البلاد. آخرون لم يتمكّنوا من ذلك، فانتقلوا إلى مدينة أخرى لعلّهم يعيشون فيها بأمان. أمّا الذين لم يتمكنوا من الانتقال حتى داخل البلاد، فقد اضطروا إلى ملازمة منازلهم حفاظاً على حياتهم، على حدّ قولهم.
ثلاثة أشهر متتالية لم يرَ خلالها فيصل (52 عاماً) الشارع. التهديدات التي تصله أجبرته على ملازمة المنزل تاركاً عمله في بيع المواد الغذائية، حتى ظنّ جميع من يعرفه أنّه سافر وترك البلاد. يقول: "عملي في المتجر كان ممتازاً. لم أكن أتغيّب ولا ليوم واحد ولا حتى لساعات إلا في حال كنت مضطراً إلى الالتزام بشأن عائلي".
ويخبر أنّه خلال الاحتلال الأميركي للبلاد، "ترك بعض سكان منطقة الفضل - حيث أقيم - بيوتهم، بعد أزمات عدّة في هذه المنطقة التي قاومت الاحتلال. لكنّني على الرغم من ذلك بقيت فيها إلى أن حدث ما لم أتوقّعه". يضيف فيصل أنّ "عدد القاطنين في المنطقة التي تُعدّ واحدة من أقدم مناطق بغداد الشعبية، تقلّص. فكثيرون اتُّهموا بأنّهم إرهابيون وتعرّضوا للملاحقة بين حين وآخر. وبعد فترة، وجدت نفسي في دائرة الاتهام نفسها. حينها، تأكدت من أنّ التهم بمعظمها كيديّة. بعضها بسبب ما نسمّيه نحن حسد عيشة، وبعضها بسبب خلافات قديمة".
ويتابع أنّ كثيرين اضطروا إلى المغادرة، أمّا أنا فبقيت حبيساً في منزلي. لا أخرج ولا أعمل. وإذا قُرع الباب، لا أخرج إلا في حال عرفت من هو الزائر ومدى ثقتي به". ويشير فيصل إلى أنّ أهله تحمّلوا مسؤولية عائلته بدلاً عنه لثلاثة أشهر، مؤكداً أنّ "انتقالي إلى مكان آخر صعب للغاية. فأنا لا أستطيع ترك عائلتي ولا أستطيع في الوقت نفسه اصطحابها معي. نحن جميعاً نرفض الانتقال ونرى في ذلك صعوبة بالغة، أكبر بكثير من صعوبة بقائي في المنزل طوال الوقت".
من جهته، كان أبو يقين (47 عاماً) يعيش في مدينة بعقوبة في محافظة ديالى (شمال شرق). يقول: "كنت أعمل سائقاً لإحدى المنظمات الدولية الناشطة في المجال الإنساني. وسوء الوضع الأمني في ديالى يعرفه الجميع، لكنّ لقمة العيش تتطلب العمل والمجازفة".
يضيف: "ازداد الوضع سوءاً عندما بدأت التهديدات تطاول عائلتي. إمّا أن أترك العمل أو يكون الثمن رقبتي أو رقبة أحد أبنائي. وبالفعل، تركت العمل. لكنّ صحة والدتي لا تسمح بالانتقال والسفر، لذا بقينا في ديالى وصرت ألازم بيتي ولا أخرج سوى مرة واحدة في الأسبوع. الساعات القليلة التي كنت أقضيها خارجاً كانت تشبعني بالأكسجين، على الرغم من خطورتها علـي حياتي". ويتابع أنّه بقي على هذه الحال "لمدة عام ونصف العام تقريباً، على الرغم من القلق الذي كان ينتاب العائلة أثناء تلك الساعات التي أقضيها عند أحد الأصدقاء. وبعدما توفيت والدتي، رحمها الله، قررت مغادرة مدينتي. حزمنا حقائبنا بعد انتهاء مجلس العزاء وتوجّهنا إلى الشمال". بالنسبة إلى أبو يقين، فإنّ "الرجل يفقد هيبته وكرامته إذا بقي ملازماً بيته، حتى وإن لم يشعره من حوله بأنّه ثقل عليهم".
أمّا ثائر الشمري (39 عاماً) وهو تاجر لحوم مستوردة، فيقول إنّ "زوجتي تشتكي من وجودي في البيت، بعدما كان ذلك يسعدها في البداية". ويخبر أنّه "بعد النزوح، لم أجد أمامي غير إدارة عملي عن بعد. وهذا ما جعلني أمكث في المنزل معظم الوقت، فلا أخرج منه إلا لزيارة الأقارب والأصدقاء من حين إلى آخر". يضيف: "قبل النزوح، كنت أعود إلى المنزل في وقت متأخر بسبب مشاغل العمل، فألهو قليلاً مع الأطفال من دون أن أهتمّ بأيّ شيء يخصّ تربيتهم أو شؤون البيت. لكنّ زوجتي اليوم أصبحت تشتكي مني كثيراً وتقول إنّني أتدخّل بكلّ صغيرة وكبيرة".
ويشدد الشمري على "ضرورة أن يعطي الرجل زوجته مساحة لقضاء بعض الوقت مع نفسها، وألا يكون بقاؤه في المنزل سبباً في تقييدها. لكنّني اضطررت إلى ذلك، ولم أنتبه إلى أنّني تحوّلت إلى رجل بيتوتي، مثل أولئك الذين يتعبون زوجاتهم بكثرة تدخّلاتهم وطلباتهم التي لا تنتهي. وذلك أمر يجعل نساءهم يكرهنَ وجودهم المستمر في المنزل". ويتمنّى أن "يتحسّن الوضع الأمني، لأخرج إلى العمل. فحالتي النفسية ساءت مذ أصبحت جزءاً من أثاث منزلي".
"من جلس في داره، قلّ مقداره" يقول الناشط إبراهيم محمود (27 عاماً) المتخصص في علم النفس الاجتماعي. ويوضح أنّه "على الرجل أن يخرج ويعمل ويعود إلى منزله في أوقات معيّنة، غير أنّ الأمر يختلف في هذا البلد المصاب بداء الحروب". يضيف أنّ "الرجال لا يملكون جميعاً المال للسفر أو الانتقال للعيش في مناطق أخرى غير مناطقهم المضطربة التي تعصف بها الحروب ويجتاحها الدمار والتهديدات. وهذه الأسباب مجتمعة جعلت كثيرين من الرجال يلازمون منازلهم مرغمين لأشهر كثيرة ولا يخرجون إلا للضرورة".
ويتابع محمود أنّ "هذه الحالة تتعب الرجال كثيراً وتؤثّر سلباً على نفسياتهم وبالتالي على عوائلهم. كثيرون منهم يتحوّلون من رجال هادئين إلى رجال ذوي مزاج متعكّر، إذ يشعرون بأنّ لا قيمة لهم بعدما فقدوا دورهم وسلطتهم وعملهم". ويلفت إلى أنّ الرجل في هذه الحالة، يشعر بأنّ زوجته التي تؤدّي واجبها المنزلي كلّ يوم أفضل منه بكثير، لا بل أصبح هو عبأً عليها وعلى أبنائه الذين لم يعودوا يخشونه كما في السابق".