"البازلّاء جيّدة للتثليج". يقولها حسن مبتسماً كأنّه يُسجّل نقاطاً لصالحه، متفوّقاً في الخبرة على سيّدات المنازل اللواتي جئنَ إلى محلّه لابتياع حاجياتهم من الخضر والفاكهة. يعرفن أن اسمه حسن، واسم شقيقه حسين ويلقّب بـ"أبو علي"، ولا يُمانعن الشراء من محلّه. وهذا قليلٌ عليه. الأصح أن يقال إنهم يقصدونه.
يقعُ محلّ حسن وحسين في أحد أحياء منطقة الأشرفية في شرق بيروت. هذا ليسَ عادياً في بلدٍ عانى من حرب أهلية قوامها المسلمون والمسيحيون طيلة 15 عاماً. هو نفسه يُدرك ذلك. لكنه يرتاحُ هنا. بدورهم يُبادلونه هذا الشعور.
كانَ يُفرِغُ صندوق البازلّاء. يُقلّبها بين يديه كما لو كانت ذهباً أخضر. وهي كذلك على أي حال. هذه الخضر أنقذتهم من الجوع خلال الحرب. وقبلَها، كان والده قد سكن منطقة برج حمود (شرق بيروت). حتى حسن تعلّم في إحدى مدارس المنطقة. كان لدى والده محل لبيع الخضر. عام 1975، اندلعت الحرب، فارتأت العائلة العودة إلى مسقط رأسها في الجنوب، وتحديداً منطقة صور.
كبُر حسن. صارَ رجلاً. لا يهمّ تصنيف الأمم المتحدة هُنا بل العائلة و"لقمة العيش" التي لم تكن سهلة خلال الحرب. كان طفلاً إذاً حين اضطرّ إلى العمل. يحملُ صندوقاً كبيراً ويأتي إلى بيروت. لم يكن يخشى اجتياز الحواجز، هو الذي وقع اختياره على شرق العاصمة، حيث يسكن المسيحيون. لم يفكّر في احتمال أن يقتل عند الحواجز لكونه مسلماً. في معظم الأحيان، يصطحب جده معه ليقلّل من الأخطار. فقط يحملُ صندوقه، ويسمحُ له المسلحون بالمرور كعادتهم، ويمضي إلى الأشرفية.
في الحيّ، تطلّ السيّدات من الشرفة ويسألنه عما جلبه. هذه تُريد الخيار وتلك الكوسى. لا يكون حظّه جيّداً حينَ يصعد طوابق عدة محملاً بالأكياس، ولا تعطيه السيّدة البقشيش. لم يكن ليسامحها إطلاقاً. "أُكيل لها الشتائم في قلبي"، يقول. لا ينسى أيضاً أن كثيرات كنّ يستغللنه. هذه تطلب منه حمل السجاد، وتلك دقّ المسمار على الحائط، أو جلب أشياء من العلية. وهو لا يرفض طمعاً بمزيد من البقشيش. يتذكّر هذه المرحلة بهدوء. كأنها لم تكن حرباً. يبدو متصالحاً مع طفولته. "لكنني كنت متفوقاً في المدرسة". مع ذلك، لا يفكّر بمستقبلٍ مختلف، وقد أحبّ عمله وأتقنه.
قبل انتهاء الحرب، صار يُسمح للشاحنات باجتياز الحواجز. يضع كميات أكبر من الخضر في داخلها. أحياناً ينتظر يومين عند الحاجز قبل أن يسمح له بالمرور. ماذا لو لم تعد الخضر صالحة؟ يقول: "خلال الحرب، لم تكن الناس تختار. كوسى يعني كوسى. لا يهم إن ذبلت. الاسم هو المهم، وسد الجوع".
بعد الحرب، افتتح محلاً في الحي وكبر فيه. لسانه ليسَ حلواً بل دافئ. كَبر في هذا الحي. يعرف أطفالاً صاروا رجالاً، وأمهات صرن جدات. يقول إن هذا ابن فلان. الحيّ على حاله. تشيخ ملامحه فقط، حاله حال أهله. تأتي زبونة عتيقة وتحيّيه، قبل أن تقول إنه "مثل أولادها. عرفته طفلاً. بل هو ولد من أولادي". توضح أنه كان سهلاً على أهل الحي، وهو أشبه بـ "غيتو"، تقبّل حسن. "كلانا أردنا أكل العيش". صانَ لسانه ولم تفلت منه أي إساءة لدين أو طائفة. لا شعارات دينية أو حزبية في محله. الخضر والفاكهة وحدها تملأ المكان. كسب ثقة الحي حتى اليوم. يقول: "حينَ ينتهي رزقي في هذا المكان، سأغادر. لن أفتح محلاً في مكان آخر. لا أستطيع العمل إلا هنا، وبين هؤلاء".
ألم يكن أسهل عليك العمل في مناطق غرب بيروت، حيث يقطن المسلمون؟ كأنّه لم يفكر في الأمر من قبل. ومن البديهي أن يفعل. لكنه ببساطة يرتاحُ هنا. في إحدى المرات، سألته زبونة إن كانت فاكهة الأكدنيا حلوة المذاق. نصحتها أخرى أن تنتقي تلك البرتقالية الداكنة. عرفت الأولى أن النصيحة ليست بريئة تماماً، إذ كانت تعلن تأييدها للتيار الوطني الحرّ الذي يدل عليه باللون البرتقالي. يقول: "تشاجرتا. لم يكن باستطاعتي تأييد أي واحدة منهما، فأحسب على جهة سياسية معينة". اكتفى بترديد عبارة واحدة. "صلّو على النبي يا جماعة".
بعد قليل، جاءت زبونة ترتدي تنورة وحذاء بكعب عال، وقد وضعت النظارات الشمسية على رأسها. سألت أبو علي عن سعر الكرز. وطلبت منه تعبئة مقدار كيلو. فطلب منها أن تأتي إليه، قبل أن ترد بغضب: "هل يجب أن تراني كي أحصل على الكرز؟ لن أجيء حتى لو ناداني أوباما (في إشارة إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما)". يعلّق حسن بأن هذه الزبونة تحبّ لفت الاهتمام، فيردّ أحد العمال: "هذا حالُ جميع النساء". يضيف حسن أنه مضطر إلى مسايرة زبائنه. لا يهمه إن طلبن منه تنقية الخضر حتى لا تتسخ أيديهن. هذا عمله وهو مستعدّ له. يضحكُ في سرّه، هو الذي يرى أنه بات أشبه بطبيب نفسي.
على الرف فوق التفاح، صفّ البطيخ. ما زال قلبه أبيض. لا يكذب على الزبون. من يسأله، يخبره أن ينتظر نحو أسبوعين. لكن إذا كنتَ لا تكذب، فكيف تبيعُ؟ يقول: "يظل هناك زبائن تريد بلّ ريقها". ماذا عن الثوم؟ هذا صيني، البلدي ما زال أخضرَ.
اقرأ أيضاً: لبنان... حربُ نفوسٍ باردة