في دراسة أخيرة حول التهديدات الأبرز التي تقلق المجتمعات، عبّر 74 في المائة من الأوروبيين المستطلعة آراؤهم عن خوفهم من تهديد تنظيم داعش. وقد أتى ذلك في المرتبة الأولى ليتبعه التغيّر المناخي.
العملية الإرهابية الأخيرة التي استهدفت برشلونة حيث يعيش أشخاص من قوميات وأعراق مختلفة في انفتاح قلّ نظيره في دول أخرى في القارة الأوروبية، عادت لتسلّط الضوء على الخوف المنتشر بين الأوروبيين. فالعمليات المتنقلة بين عدد من الدول الأوروبية، من شمالها في السويد مروراً بـالدنمارك وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وصولاً إلى جنوبها في إسبانيا، تثير فزع الأوروبيين. فهي قد تمتدّ غداً لتطاول إيطاليا التي تستقبل مئات آلاف المهاجرين الهاربين من بلادهم بحراً. كذلك يأتي تبنّي تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) السريع لكلّ واحدة من عمليات الدهس أو الطعن أو إطلاق النار، ليفاقم الوضع أكثر فأكثر.
يوم الخميس الماضي، في السابع عشر من أغسطس/ آب الجاري، وقعت عمليّة الدهس في برشلونة (كتالونيا). وفي الأوّل من الشهر نفسه، كانت نتائج بحث شامل أعدّه مركز "بيو" للدراسات حول مخاوف الناس من التهديدات التي تواجه مجتمعاتهم، قد أظهرت تغيّراً نسبياً في قراءة هؤلاء لمصادر التهديد وفقاً لمتغيّرات عدّة. يُذكر أنّ البحث أعدّ في الفترة الممتدة بين 16 فبراير/ شباط 2017 والثامن من مايو/ أيار من العام نفسه، وقد شارك فيه نحو 42 ألف شخص من 38 بلداً في قارات العالم المختلفة.
أظهرت نتائج البحث أنّ "تهديد تنظيم داعش" يحلّ في المرتبة الأولى لمصادر خوف شعوب أوروبية، مع متوسط 74 في المائة، في حين يأتي التغيّر المناخي في المرتبة الثانية مع متوسط 64 في المائة، تليه في المرتبة الثالثة الهجمات الإلكترونية مع متوسط 54 في المائة.
ولفت مركز "بيو" إلى أنّ "تغيّراً بسيطاً طرأ على تقييم (مصدر) التهديد العالمي" منذ انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع ما رافقه من زيادة المخاوف من القوة والتأثير الأميركيين في أوروبا وحول العالم. وكان استطلاع آخر نشره المركز في يونيو/ حزيران الماضي قد أظهر تراجعاً في الثقة العالمية بالرئيس الأميركي بنسبة 74 في المائة، في حين حلّت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في مرتبة متقدّمة على ترامب لجهة الثقة وكذلك على الرئيسَين الصيني شي جي بينغ والروسي فلاديمير بوتين، بنسبة 42 المائة. وقد وصلت هذه النسبة إلى 60 في المائة بين الشعوب الأوروبية.
غداة عملية الدهس في لندن في يونيو/ حزيران 2017 (تولغا أكمن/ فرانس برس) |
الاختلاف بحسب التحديات
وتظهر آراء الشعوب اختلافاً في تقييم مصادر الخوف من التهديدات التي تواجه مجتمعاتها. بالنسبة إلى اليونانيين، يبدو أنّ 98 في المائة منهم ينظرون بسلبيّة إلى اقتصادهم الوطني، و88 في المائة منهم رأوا بأنّ الاقتصاد العالمي يحتلّ المرتبة الأولى في قلقهم. لكنّ النسبة في هولندا على سبيل المثال، لم تتعدّ 12 في المائة لدى الذين قيّموا اقتصادهم الوطني سلبياً في حين عبّر 21 في المائة عن قلقهم من وضع الاقتصاد العالمي.
إلى ذلك، تظهر النسب المئوية المتعلقة بالسؤال حول القلق والتهديد في المجتمعات التي استطلعت في الغرب، أنّ تهديد "داعش" من بين تهديدات أخرى، كالتهديد الروسي والصيني والأميركي، احتلّ مرتبة متقدّمة في فرنسا وإيطاليا، مع88 في المائة و85 في المائة تباعاً. وفي حين ظهر الكنديون أنّهم أقلّ الشعوب الغربية خوفاً من هذا التهديد مع 55 في المائة، سجّل جيرانهم البعيدون جغرافياً في الولايات المتحدة الأميركية 74 في المائة في حين سجّل الألمان 77 في المائة.
ولعلّ المثير في نتائج الأجوبة الأميركية، أنّ متوسّط 36 في المائة من مستطلعي الولايات المتحدة الأميركية عبّروا عن قلقهم من تزايد اللاجئين، بالإضافة إلى مخاوفهم الكبيرة من "داعش"، في مقابل 25 في المائة بين الكندييين و28 في المائة بين الألمان الذين استقبلوا أكبر عدد من اللاجئين في الغرب.
قراءة بعض النتائج توضح بالتأكيد توجّهات المجتمعات الأوروبية والغربية في ما يتعلق بقضايا حساسة تعني مستقبلهم منذ الأزمة الاقتصادية العالمية. بالنسبة إلى دول جنوب القارة الأوروبية على سبيل المثال، فإنّ الوضع الاقتصادي يحتلّ مرتبة متقدّمة بالتزامن مع أزمة اللاجئين، ويُسجَّل تزايد في مخاوف دول أوروبية شرقية من اللاجئين، على الرغم من أنّها في أسفل قائمة المستقبلين. وفي المجر، يرى 66 في المائة من المستطلعة آراؤهم تهديداً في اللاجئين، وفي بولندا 60 في المائة، فيما يقترب الخوف من "داعش" إلى 67 في المائة.
في السياق، يُظهر البحث أنّ المجتمعات التي هي على تماس مباشر مع اللاجئين الوافدين إلى أوروبا، هي الأكثر قلقاً من الظاهرة. وبينما عبّر 39 في المائة من الفرنسيين عن قلقهم من زيادة الأعداد، سجّل الإيطاليون نسبة 65 في المئة واليونانيون 67 في المائة. في المقابل، وعلى الرغم من أنّ السويد استقبلت ما يربو على 200 ألف لاجئ خلال العامَين الماضيَين، فإنّ نسبة السويديين الذين عبّروا عن القلق في هذا المجال لم تتجاوز 22 في المائة. واللافت كذلك في الأمر، أنّ 59 في المائة من الإسبان، وفقاً لتلك النتائج، يرون في "زيادة القوة والنفوذ الأميركيين" تهديداً يفوق تهديد تدفّق اللاجئين (42 في المائة).
اختلاف الهواجس
يبدو واضحاً أنّ الدراسة التي وضعت خارطة تفصيلية للمخاوف العالمية من التهديدات تظهر فرقاً كبيراً بين هواجس الشمال الغني والجنوب الأفقر حالاً. ومن خلال 18 دولة من الدول الـ 38 التي شملتها الدراسة، يظهر بوضوح أنّ تهديد تنظيم "داعش" يحتلّ مرتبة متقدمة في المخاوف. وتشترك في هذا المجال دول أوروبية كفرنسا وألمانيا مع دول آسيا والمحيط الهادئ في قراءة هذا التهديد كتحدّ كبير. إلى ذلك، ترى مجتمعات 13 دولة أنّ التغيّرات المناخية هي أكبر تهديدات الأمن القومي. ويتخوّف الإسبان من ذلك بنسبة 89 في المائة في حين سجّل البولنديون فقط 42 في المائة في مجال التغيّر المناخي.
وفي تعقيب أوّلي على تلك النتائج، يرى أستاذ "دراسة الحروب" في جامعة جنوب الدنمارك، جون كليمنصين، أنّه "على الرغم من أنّ احتمال وفاتك في ألمانيا وفرنسا على يد داعش يأتي أدنى بكثير من وفاتك من جرّاء سقوطك في الحمام، فإنّ صورة التهديد هنا تبدو أكثر وضوحاً ويؤدّي الإرهاب دوره في تشكيلها في أذهان الناس العاديين". يضيف أنّ "الناس في محطات المترو والأسواق يفكّرون كثيراً باحتمال وقوع هجوم في هذه اللحظات، وبكيفية الهرب أو الاختباء والنجاة". ويشير كليمنصن إلى أنّ "صورة التهديد المرتبطة بالتغيّر المناخي وبعلاقة روسيا والصين لدى هذه المجتمعات، مسألة مرتبطة بالسياسات الأمنية أكثر من الشعور بالتهديد المباشر من جرّاء أعمال إرهابية".
خارطة المخاوف في المجتمعات حول العالم توضح أنّ الخوف من "الإرهاب" بات يحتلّ الصدارة "منذ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وما تلاها من هجمات في عدد من الدول الأوروبية والآسيوية والشرق أوسطية، وتزايدها في السنوات الأخيرة مع بروز "داعش". وهذا ما يراه كبير الباحثين في السياسات الأمنية ومدير فرع مركز "بيو" في كوبنهاغن، هينريك برايتنباوك.
بعد أيام من هجوم السويد في 7 أبريل/ نيسان 2017 (جوناثان ناكستراند/ فرانس برس) |
خارطة المخاوف
وقد احتل القلق من تزايد اللاجئين المرتبة الخامسة مع متوسط 41 في المائة، في حين أتت المخاوف من الوضع الاقتصادي العالمي بنسبة 37 في المائة. واللافت أنّ 41 في المائة من الأوروبيين كمتوسط، يرون في قوة روسيا ونفوذها تهديداً كبيراً، في مقابل 31 في المائة بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية و30 في المائة بالنسبة إلى الصين.
وفي آسيا والمحيط الهادئ، تبدو المجتمعات قلقة من التغيّرات المناخية بنسبة 61 في المائة، في حين يمثّل "داعش" هاجساً بنسبة 61 في المائة. إلى ذلك، تخشى مجتمعات الدول الآسيوية بنسبة 52 في المائة من الهجمات الإلكترونية كتهديد جدّي لمجتمعاتها، ولا ترى في مشكلة تدفّق اللاجئين تهديداً حقيقياً إلا بنسبة 35 في المائة، بينما ترى 47 في المائة منها تهديداً جدياً في قوة الصين ونفوذها.
أمّا في المجتمعات الأفريقية، بما فيها المجتمعات العربية شمالها، فإنّ التغّيرات المناخية تمثّل التهديد الأكبر مع نسبة 58 في المائة كمتوسط، ليحلّ تهديد تدفق اللاجئين في المرتبة الثانية مع 55 في المائة. وثالثاً يأتي تهديد "داعش" مع 54 في المائة بخلاف المجتمعات الأوروبية وغيرها. كذلك، فإنّ 37 في المائة من المجتمعات الأفريقية ترى في الولايات المتحدة الأميركية تهديداً جدياً، في حين ترى 32 في المائة في الصين تهديداً و31 في المائة ترى في روسيا تهديداً.
في السياق، غاب السؤال حول تهديد "داعش" عن الدراسة في الشرق الأوسط، ليحتلّ الوضع الاقتصادي العالمي المرتبة الأولى في التهديدات التي تشعر بها مجتمعات المنطقة مع متوسط 59 في المائة. بعد ذلك تأتي قوة ونفوذ الولايات المتحدة الأميركية مع 50 في المائة، أمّا روسيا فتسجّل 35 في المائة والصين 20 في المائة.
تجدر الإشارة إلى أنّ تدفّق اللاجئين بسبب الوضع في سورية والعراق احتلّ مرتبة متقدمة كثالث تهديد في الشرق الأوسط مع نسبة 48 في المائة في مجتمعات المنطقة، في حين أتت المخاوف من التغيّر المناخي بنسبة 44 في المائة. وفي المخاوف المستجدّة، يُنظر إلى الهجمات الإلكترونية كتهديد بنسبة 40 في المائة.
خلاصات
من الواضح أنّ الشعور بالتهديد في المجتمعات المستطلعة آراؤها يرتبط بطريقة مباشرة بما كانت تعيشه خلال الفترة الأخيرة التي سبقت وتخللت الدراسة التي بدأت في فبراير/ شباط الماضي. بعض المجتمعات يرى التهديد الروسي، كما في حالة أوروبا، أقلّ من مجتمعات أخرى إذ إنّه تهديد مجرّد، في حين أنّ التهديد بالانقسام الأميركي الأوروبي يؤثّر على الديمقراطية الغربية"، وفقا لما يخلص إليه برايتنباوك. وفي ذلك إشارة واضحة إلى مشاعر الخوف الأوروبي منذ تولي ترامب الرئاسة في واشنطن.
أمّا الباحث من مركز الدراسات العسكرية في جامعة كوبنهاغن، ميكال فيدبي، فيرى أنّ "صور التهديد تتغيّر. فتهديد الأمن سابقاً كان يرتبط بالتهديد العسكري، فيما نرى الصورة اليوم تتبدّل لتطاول التغيّرات المناخية والتهديد بالهجمات الإلكترونية". لكنّ دولاً كالمجر ووسط أوروبا ترى في تدفق اللاجئين تهديداً أكبر من تهديد التغير المناخي. وذلك التدفق لا يُنظر إليه في الغرب كتهديد مباشر بحسب ما يبدو، الأمر الذي يشير إلى انقسام أوروبي في التقييم. يُذكر أنّ هذا التدفّق كان له دور في توجيه الرأي العام في فترات انتخابية أخيراً، وثمّة توقّعات بأنّه سوف يؤدّي دوراً في المستقبل المنظور. وتظهر الدراسة توافقا بنسب معينة بين أوروبا ودول آسيوية والمحيط الهادئ حول التهديد الإرهابي، وهو ما يراه الخبراء "أمراً طبيعياً نسبة إلى تزايد المخاوف من هجمات كتلك التي وقعت"، بحسب كليمنصين.