تقف هذه الزاوية عند مترجمي الأدب العربي إلى اللغات العالمية المختلفة، ما هي مشاغلهم وأسئلتهم وحكاية صداقتهم مع العربية. "لم يكن في المكتبة الألبانية معجم عربي - ألباني، الأمر الذي دفعني إلى تنفيذ هذه المهمة"، يقول المترجم الكوسوفي لـ"العربي الجديد".
■ متى وكيف بدأت علاقتك باللغة العربية؟
- أعتبر نفسي محظوظاً، لأن والدي كان إماماً، الأمر الذي أتاح لي فرصة الحصول على معارفي الأولى في اللغة العربية منذ طفولتي الباكرة. فقد تعلّمت الأبجدية العربية وقراءة القرآن، قبل أن أتعلّم حروف لغتي الأم. هذا النهج في تعلّم اللغة العربية، أصبح أقوى مع التحاقي بالدراسة في المدرسة الثانوية الإسلامية، المعروفة باسم "مدرسة علاء الدين"، والتي تُشرف عليها "المشيخة الإسلامية الكوسوفية"، وتدرّس اللغة العربية إلى جانب المواد الأكاديمية، وتقع في مدينة بريشتينا؛ عاصمة جمهورية كوسوفا.
أجد نفسي، حتى هذه اللحظة، أحمل تقديراً كبيراً لمعلّمي الذي درّسني اللغة العربية في "مدرسة علاء الدين"؛ الأستاذ سليم مالوكو، الذي حبّب إليَّ العربية فأصبحت مادتي الدراسية المفضّلة خلال مرحلة المدرسة، كما أحمل التقدير والعرفان، إلى يومنا هذا، لوالدي، ولأساتذتي في المدرسة ومن بعدها الكلية، على ما قدّموه لي من صنيعٍ جميل، جعلني في صحبة اللغة العربية طوال حياتي. وأثمّن عالياً دور الأساتذة، وأخصّ هنا، أستاذ العربية، لأهميته في تحبيبها إلى الدارسين. ومحبّتي لهذه اللغة، هي من غرس أساتذة اللغة العربية الذين تعلّمتها على أيديهم، وإلى يومنا هذا أحفظ لهم ذكرى جميلة، كما أحفظ ما تعلّمت منهم، من حروف العربية ونحوها وصرفها وبلاغتها.
■ ما أول كتاب ترجمتَه وكيف جرى تلقيه؟
- تجربتي مع الترجمة الأدبية من اللغة العربية إلى اللغة الألبانية، جاءت متأخّرة نسبياً. وفي اعتقادي أنّ السبب الرئيسي لهذا التأخير، هو أن الشعب الألباني ظلّ إلى بدايات القرن العشرين جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، كما أنه من المعلوم أن العربية هي لغة الحضارة الإسلامية، وكانت تُدرَّس في جميع المستويات الدراسية في العهد العثماني، ما يعني أن جميع الكتب في ذلك الوقت، كانت تصدر بالعربية. لهذا، كانت أولى محاولاتي الجادة للترجمة الأدبية من العربية، هي ترجمة النصوص المساعدة على تعلّم العربية من اللغة الألبانية، وهي نصوص قديمة تعود إلى مطلع القرن العشرين. حتى تلك الفترة، كانت نصوص تعليم العربية، بصورة أساسية، عمومية، مكتوبة باللغة العربية أو العثمانية. وكانت تستخدم في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية.
وهنا يجدر بي التأكيد على أن نقص كتب ونصوص تعليم العربية للطلاب المتحدّثين بالألبانية كلغة أم، دفعني إلى التفكير طويلاً في إعداد مادة لتعليم قواعد اللغة العربية للطلاب الألبان. مع بداية عملي مساعداً لتدريس اللغة العربية في كلية اللغات بجامعة برشتينا، قمتُ بإعداد كتاب "قواعد اللغة العربية للطلّاب"، وكان هذا أول عمل هام بالنسبة إليَّ في مجال الترجمة العربية. كان الاهتمام بترجمة الأدب العربي إلى لغتي الأم، محوراً لاهتمامي منذ بداية عملي في المجال الأكاديمي، مثل المتخصّصين في العربية من الشعوب الأخرى.
أول عمل هام ترجمته من العربية إلى الألبانية، هو "كليلة ودمنة" لعبد الله بن المقفع، وأعتبره نقطة انطلاق تمهّد للانتقال إلى ترجمة الأعمال الأدبية المعاصرة. كان نقص المراجع الإسلامية باللغة الألبانية حافزاً دفع بشعبة الدراسات الشرقية في كلية اللغات بجامعة برشتينا، إلى تبنّي مشروع ترجمة جميع مجلّدات صحيح البخاري، وذلك في منتصف العقد الأخير من القرن العشرين. وضمن هذا المشروع، قمتُ بترجمة المجلّد الرابع من "صحيح البخاري".
■ ما آخر إصداراتك المترجمة من العربية وما هو إصدارك القادم؟
- من امتيازات مهنتي كمحاضر جامعي، إلى جانب مسؤولياتها الكبيرة، أنها سمحت لي بالمشاركة في مؤتمرات ومناسبات علمية مختلفة، في العالم العربي، وأتاحت لي فرصة التعرّف إلى شخصيات عالمية مختلفة، لها إسهاماتها في ترجمة الأدب العربي إلى لغات مختلفة. في أعقاب عام 2017، خلال مشاركتي في مؤتمر عُقد في الدوحة بقطر، التقيت بعدد كبير من المترجمين الأجانب، من بينهم أحد الذين ترجموا رواية "القوقعة" لمصطفى خليفة، ولفت نظري إليها كعمل يستحقّ الترجمة إلى اللغة الألبانية. عند عودتي إلى كوسوفا، شرعت في ترجمة هذه الرواية، وبعد اتخاذ كل الإجراءات الفنية المطلوبة، صدرت مؤخّراً في ترجمتها الألبانية لتنضم إلى ترجماتها التي تمت سابقاً إلى اللغات الأخرى. وهي أحد أبرز الأعمال في أدب السجون، المكتوب باللغة العربية.
المعاناة التي عاشها بطل الرواية، مصطفى خليفة، طيلة ثلاثة عشر عاماً قضاها في سجن "بالمير" سيئ الصيت، تفوق المعاناة التي مرّ بها فيودور دوستويفسكي في سجن بسيبيريا. إذا نظرنا إلى كتاب دوستويفسكي "قصاصات من البيت الميت"، كعمل نصف روائي ونصف سيرذاتي، فإن رواية "القوقعة" تُعتبر سيرة ذاتية كاملة الدسم، ومن خلالها استطاع المؤلف أن يصوّر بؤس ووضاعة النظام الشمولي القمعي في سورية. وبعض وسائل الإعلام الغربية، صادقة حين وصفت هذه الرواية بأنها "إنجيل الربيع العربي في سورية". هذه الرواية وغيرها من الروايات التاريخية، خلقت لديَّ قناعة بأن تاريخ العالم العربي يمكن فهمه على أفضل صورة من خلال الروايات التاريخية. وأتمنّى أن يكون العمل القادم الذي سأعكف على ترجمته، من نفس هذا النوع الأدبي.
■ ما العقبات التي تواجهك كمترجم من اللغة العربية؟
- لا شك أنه على المترجم الجاد، عند انخراطه في ترجمة أي عمل من اللغة العربية، أن يضع في متناول يده قاموساً للغة العربية، واحداً على الأقل. المكتبة الألبانية لا يوجد فيها معجم عربي - ألباني، الأمر الذي دفعني إلى تنفيذ مشروع طويل الأمد، لإصدار معجم عربي - ألباني جاد، وقد استغرق العمل على هذا المشروع أكثر من عقد من الزمن. إلى أن تُوّج المجهود بنشر "معجم عربي - ألباني" يحتوي على 120 ألف كلمة تقريباً. لكن هذا لا يعني بأن هذا القاموس يستوفي جميع حاجات الترجمة التي تواجه مترجمي الأدب العربي، فلا تزال هناك حاجة إلى وضع قاموس سياقي في حقول المعرفة المختلفة، وعلى وجه التحديد قاموس للمصطلحات في مجال الأدب والفلسفة والدين وغيرها.
■ هل هناك تعاون بينك وبين مؤسّسات في العالم العربي أو بين أفراد وما شكل التعاون الذي تتطلع إليه؟
- إلى جانب الصعوبات التي تواجه كل مترجم بسبب عدم توفر المصادر المساعدة على ترجمة عمل ما، بلا شك فإن غياب الدعم المؤسّسي، يشكل تحدياً وعائقاً كبيراً أمام المترجم. من واجب المترجم تكريس جهده ووقته للترجمة، لكن ليس من واجبه، أو على الأقل افتراضاً يخالف الواقع، ليس من واجبه البحث عن ناشر لنشر أعماله المترجمة، لذلك أعتقد بأن الجانب المتعلّق بنشر الأعمال المترجمة من اللغة العربية، يجب أن يقع ضمن مسؤولية المؤسّسات الثقافية المعنية وبعثاتها الدبلوماسية وغيرها من المؤسّسات في الدول العربية المختلفة. ومن نافلة القول إن الدبلوماسية الثقافية على مر التاريخ أثبتت نجاحها في تحقيق التقارب ليس بين الثقافات فحسب، بل في تحقيق المصالح المشتركة بين الشعوب.
■ ما هي المزايا الأساسية للأدب العربي ولماذا من المهم أن يصل إلى العالم؟
- في عصر رقمنة المعرفة الذي نعيشه، ومع سعة انتشار الأدب الصادر بالإنكليزية وسهولة وصوله إلى القرّاء في مختلف أنحاء العالم، لا شك أنه من الطبيعي أن يتحوّل اهتمام القرّاء للاطلاع على آداب الشعوب الأخرى، ومنها الأدب العربي، ومن هذا المنطلق، يأتي اهتمامي بتقديم أعمال مترجمة من اللغة العربية إلى القارئ الألباني، الذي تشبّع مثل غيره من القرّاء من قراءة الأدب العالمي الذي حظي بترجمات كثيرة ومنذ مدة طويلة، عكس الأدب العربي، فهو لا يزال حقلاً بكراً للترجمة، في انتظار من يحصد ثماره. ختاماً، أعتقد بأن الترجمة الأدبية هي خير وسيلة لعرض وتوصيف حقيقة الواقع الاجتماعي لأي مجتمع، وهنا تحديداً أعني، الواقع الاجتماعي للعالم العربي، الذي يعيش حالة من الاضطراب، لم تمنع الأدباء العرب من تصوير المآسي التي تعاني منها بعض شعوب المنطقة، في العراق وفلسطين وسورية وليبيا واليمن وغيرها.
بطاقة
كاتب وأكاديمي ومترجم كوسوفي من مواليد 1959 في بريشيفا شرق صربيا. أكمل دراسته في برشتينا، ويعمل محاضراً للغة العربية في شعبة اللغات الشرقية بكلية اللغات بجامعة برشتينا. صدر له كتاب "قواعد اللغة العربية" (2004)، و"معجم عربي - ألباني" في مجلّدين (2011)، وترجم من العربية إلى الألبانية: المجلد الرابع من "صحيح البخاري" (1994)، و"كليلة ودمنة" (2008)، و"موسوعة المستشرقين" (2015)، ورواية "القوقعة" (2019). كما نشر العديد من المقالات في مجالَي اللغة العربية والفكر الإسلامي.