حين تأسّست "جامعة الدول العربية" عام 1945، اعتلى المنبر وألقى قصيدة متفائلةً بتأسيسها في مهرجان أُقيم في القدس ذلك العام. لكن، لن تمضي سوى فترة وجيزة، حتى يكتب قصيدةً أخرى في هجائها.
لم يكن الشاعر الفلسطيني، عبد الرحيم محمود (1913 - 1948)، الذي تمرّ اليوم ذكرى استشهاده السبعون، يعلم أنه يكتب قصيدةً تصلح لأكثر من زمان: "حفِيَ اللسان وجفّت الأقلام/ والحال حالٌ والكلام كلامُ/ مرّت بنا الأيام لم نسلك بها/ جدد الصواب ومرّت الأعوامُ/ والزورق التوهان سار محيّراً/ فوق الخضمّ دليله الأوهامُ/ وتخاصم القُوّاد بين مشرِّقٍ/ ومغرِّبٍ وتقطّعت أرحامُ/ فإذا المنابر صاخبات حُفّل/ يرغى بها التهويش والإيهام".
تتزامن ذكرى استشهاده مع مرور سبعين عاماً على النكبة. ولهذه المناسبة، تُنظّم "جمعية الثقافة العربية"، في حيفا، بعد غدٍ الأربعاء، أمسيةً استعادية يتحدّث فيها الشاعر حنّا أبو حنّا والمؤرّخ مصطفى كبها والشاعرة أسماء عزايزة. وتأتي هذه الفعالية بالتزامن مع الانتهاء من أعمال ترميم قامت بها الجمعية لضريح الشاعر في الناصرة.
عاش محمود يتيماً بعد أن رحل والده وهو في السادسة، كتب الشعر وهو طالب في "مدرسة النجاح" في نابلس، والتي سيُصبح معلّماً فيها، وقد عرض قصائده على إبراهيم طوقان الذي قال له آنذاك: "أنت شاعر منذ هذه اللحظة، ولا تحتاج إلى من يُصحّح شِعرك".
يروي عنه ابن أخيه، أديب رفيق محمود، أنه كان يربط شَعره بخيط قنب قويّ في سقف الحجرة، كي يظلّ مستيقظاً لأطول وقت ممكن، فيقرأ ويكتب ويدرس. وكان ينتقل من الدراسة إلى الشعر، ثم إلى العمل حارساً على البساتين في أيام عصيبة تلت انهيار السلطنة العثمانية ودخول الاحتلال البريطاني. في تلك الفترة، كان قد تخرّج بشهادة متفوّقة تؤهّله للدراسة في "الجامعة الأميركية" في بيروت، لكنه رفض الذهاب مُؤثِراً التدريس حيث كان طالباً.
في 1935، أي قبل أن تندلع الثورة بسنة واحدة، زار الأمير سعود بن عبد العزيز القدس، فكتب الشاعر قصيدة يقول في مطلعها: "المسجد الأقصى أجئتَ تزوره؟/ أم جئتَ من قبل الضياع تودِّعه؟". هذه القصيدة التي تحمل رؤية استشرافية لشاعرٍ غارق في السياسة والكتب، عكست بحسب نقّاد، سيطرة المدرسة الإحيائية أو "النيوكلاسيكية" على قصيدة محمود، قبل أن ينتقل إلى الرومانسية.
كانت ثورة عز الدين القسام قد تركت شرارتها حيّةً بين الشباب الفلسطينيين، وعرفت البلاد ثورة 1936 التي كان محمود أحد أبنائها؛ إذ استقال من عمله، وتوجّه مع المجاهدين إلى الجبال. وفي إحدى العمليات التي قاموا بها ضدّ قافلة بريطانية تقلّ يهوداً مهاجرين، استشهد بعض المجاهدين العرب وأُقيمت لهم جنازة كتب محمود فيها قصيدته الشهيرة: "سأحمل روحي على راحتي/ وأُلقي بها في مهاوي الردى".
وصلت برقية بريطانية إلى شرطة نابلس تطلب إلقاء القبض على محمود حيّاً أو ميتاً، تلقّاها صديق له هو الشاعر عبد الهادي كامل، الذي كان يعمل مأموراً للاسلكي، فأخبر أهل محمود، وجرى تدبير طريقة لتهريبه من فلسطين، ففرّ إلى حيفا مرتدياً ملابس عامل قطار، ومنها هرّبه مطرانٌ إلى سورية التي ذهب منها إلى العراق حيث التحق بثورة رشيد عالي الكيلاني (1941). وقد تركت بغداد تأثيراً على تجربة محمود الشعرية؛ إذ تعرّف فيها على حركات شعرية جديدة أثّرت في كتابته ونقلته إلى الرومانسية.
في طريق العودة من العراق إلى فلسطين عبر الصحراء، كتب قصيدة يخاطب فيها الحجر: "فيم انفرادك لا أنيس/ تراه في القفر المخيف/ في ربقة الوهج الحرور/ وغلّ عاصفة عصوف/ ..../ أنت الوحيد هنا/ ومالي لا أقول أنا الوحيدُ/ هيمان لا أدري الغداة/ طريق منجاتي طريدُ/ وإذا قعدتُ كما قعدتَ/ أضرّ بالروح القعودُ".
عاد محمود إلى فلسطين، بدأ العمل مع "جيش الإنقاذ" كضابط اتصال. وربما يكون أحد الشعراء القلائل الذين يقولون ما يفعلون؛ فقد حمل روحه فعلاً وألقى بها في "معركة الشجرة" ضدّ وحدات الهاغاناه الصهيونية، وفيها استشهد.
لم يجمع محمود قصائده في حياته، وبحسب الباحثين فإن أول مرة جمعت فيه قصائده كان في عمان عام 1958 بمبادرة من توفيق أبو شريف وعادل الزواتي وعيسى الناعوري، ثم صدر ديوانه مرة أخرى عام 1974 عن "الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين ونُشر في بيروت، وصدر بإشراف الشاعر حنا أبو حنا ("مركز إحياء التراث العربي"، 1985). ولكنها ظلت دواوين ناقصة يتضح كل مدة أنها لم تتضمن قصائد أخرى للشاعر، إلى أن صدرت "الأعمال الكاملة" عام 1988 في دمشق والتي جمعها وحقّقها الشاعر عز الدين المناصرة.