لم يكُن الكاتب الجزائري الطاهر بن عيشة (1925 - 2016)، يتحدّث إلّا ويُثير زوبعةً لا تهدأ إلّا بعد حين. حاورتُه، قبل خمس سنواتٍ، فظلّت آراؤه تتفاعل قرابة شهرين. ورغم أنه تطرّق إلى قضايا عدّة، إلّا أن النقطة التي أثارت ردوداً كثيرةً هي حديثُه عن الروائي والباحث مولود معمري (1917 - 1989) الذي اعتبَر "عميد الصحافة الثقافية" في الجزائر أنه "كان أمازيغياً أكثر منه جزائرياً" (صحيفة "الخبر" الجزائرية، 2011).
المفارقة هي أن كِلا الرجلين اشتغلا على فضاء واحد هو التراث. غير أن معمري، وعلى خلاف بن عيشة، اتّجه، بحكم ثقافته وبيئته، إلى التراث الأمازيغي، منقّباً عن كنوزه التي كانت على شفا حفرةٍ من الاندثار والنسيان، بحكم بقائها في حالتها الشفاهية. عملَ على تطوير اللغة الأمازيغية وإخراجها من شفاهتها، ونفَض الغبار عن شاعرها الأكبر سيدي محند أومحند (1840 - 1906)، ودوّن نصوص فن الأهليل، في الصحراء الجزائرية.
بفضل تلك الجهود، أدرجت "اليونسكو" الأهليل ضمن قائمة التراث الثقافي اللامادي للإنسانية، إلى جانب أشكال شفاهية أخرى في البلاد العربية؛ مثل الحكاية الفلسطينية، والبرعة العُماني، والمقام العراقي، والسيرة الهلالية المصرية.
الحقيقةُ أن سبب سؤالي عن "الدا المولود"، تحديداً، هو معرفتي برأيٍ كان بن عيشة يجهر به في مجالسه، من دون أن يكتبه. لم يُخفِ، يوماً، شكوكه حول ذلك الباحث الأنثربولوجي الذي لم تُعيه المسافات في بلد بحجم قارّة، وطالما قال ممتعضاً: "لم أذهب إلى مكان، إلّا وقالوا لي أن المولود كان هنا".
لم يكُن بن عيشة قريباً من السلطة أو متّفقاً معها. لكن رأيه في صاحب "الربوة المنسية"، يتقاطع تماماً مع رأيها (الذي سيتغيّر لاحقاً). فقد ظلّت، هي الأخرى، تنظر بعين الريبة إلى الرجل الذي يؤكّدُ من يعرفونه أنه كان باحثاً موضوعياً، لا يخضع لأهواء السياسة. لكن السياسة ظلّت تُطارده: كان اشتغاله خارج صندوق الثقافة الواحدة واللغة الواحدة كافياً لوصمه بمعاداة اللغة العربية، وبأنه من دعاة الفكر الانفصالي. لعلّها لعنة الاختصاص الأنثروبولوجي الذي ظلّ "مشبوهاً"، لارتباطه في المخيّلة الجماعية بمراكز البحوث الإثنولوجية والأنثروبولوجية للاستعمار.
سيظهر ذلك جليّاً وهو يعود إلى مسقط رأسه؛ تاويرت ن ميمون في أيت يني (محافظة تيزي وزو)، عودته الأخيرة؛ حين لم يكن بين المئتي ألف، ممّن شيّعوه، أيٌّ حضور رسمي. بعضُهم ما يزال واثقاً أن رحيله في حادث سير كان "اغتيالاً سياسياً"، هو الذي تسبّب منعُ محاضرة له في "جامعة تيزو وزو" حول الشعر الأمازيغي القديم عام 1980، باندلاع أحداث "الربيع الأمازيغي".
اليوم، تحمل الجامعة اسمه، ويُحيي أمازيغُ الجزائر والمغرب العربي ذكرى ربيعهم في أبريل/ نيسان من كلّ عام. أمّا الثقافة واللغة الأمازيغيتان فما زالتا تبحثان عن نفسيهما، رغم إنشاء مؤسّسات رسمية تُعنى بهما. كأن المشروع برمّته توقّف في ذلك اليوم من عام 1989.