يقدّم المفكر الألماني آكسيل هونيث (1949) في آخر إصداراته "الاعتراف: تاريخ فكرة أوروبية" جذور تاريخ فكرة الاعتراف التي تطبع العلاقة بين الذوات وتؤكد ارتباطها ببعضها البعض، مؤكداً على صعوبة المهمة، وخصوصاً أن مفهوم الاعتراف اليوم أضحى حاضراً في سياقات مختلفة، فالبعض قد يرى في ارتباط الفرد بالاعتراف النبع الذي تنهل منه الأخلاق الحديثة، والبعض الآخر يجد فيه وسيلة اجتماعية وظيفتها دعم السلوك الاجتماعي للفرد، وفي سياق ثالث يُعتبر الاعتراف خطراً على الفردية "الحقيقية".
في خمسة فصول تضمّنها العمل الصادر عن منشورات "زوركامب" (2018)، يرى هونيث أن من الضروري بالنسبة للثقافة الديمقراطية أن تستحضر جذور وتطوّر الأفكار والمفاهيم التي أسّست للحياة المشتركة السياسية ـ الاجتماعية، لأن ذلك يحقق معرفة أفضل بالذات والمعايير التي تحكمها. وفي هذا السياق، يعتبر أن مفهوم الاعتراف يستحق مثل هذا الاستذكار التاريخي، لأنه تحوّل منذ عقود إلى نواة للوعي السياسي والثقافي في الديمقراطيات الغربية، كما يظهر ذلك من كتابات العديد من الفلاسفة المعاصرين الذين يسوقهم هونيث في هذا المجال، مثل جون رولز في حديثه عن ضرورة أن تحترم الذوات بعضها البعض باعتبارها أعضاء متساوية الحقوق في مجتمع يقوم على التعاون، أو مع جوديث باتلر وضرورة أن نعبّر عن اعتراف غير مشروط بخصوصية الآخر، أو ذلك المرتبط بضرورة احترام الحقوق الثقافية للأقليات كما الحال مع الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور.
لكن هونيث يؤكد منذ البداية أن مسار هذا المفهوم لم يكن خطياً ولم يمتلك المعنى ذاته في السياقات الثقافية الثلاثة التي يدرسها، ويعني بذلك الثقافات الإنكليزية والفرنسية والألمانية. يستعرض المؤلف في البداية موقف الفلسفة الفرنسية، من جان جاك روسو وصولاً إلى جان بول سارتر، من مفهوم الاعتراف، وقد صدّر لذلك بنقد للأطروحة التي عبر عنها المؤرخ الاقتصادي البريطاني إستفان هونت في كتابه "السياسات في المجتمع التجاري"، والتي ترى أن توماس هوبز هو أول من أكد الأهمية الأساسية للاعتراف بالنسبة للعيش المشترك، مؤكداً أنه لا أهمية للحاجات "الجسدية"، ولكن الحاجة "النفسية" إلى التميز والشرف هي التي تحفز البشر على الاختلاط بالآخرين.
لكن الأمر يتعلق بالأنثروبولوجيا السياسية لهوبز فقط وليس بفلسفته السياسية التي لا يمكننا التعرف فيها على هذه المطامح النفسية للبشر كما يسميها هونيث، ويضرب مثلاً بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم في "الليفياثان"، والتي تؤكد أن الهدف من تلك العلاقة أو التعاقد هو الاستقرار السياسي وليس تحقيق الاعتراف المجتمعي.
لذلك، يقرّر هونيث أن يتبع طريقاً آخر، محاولاً اقتفاء جذور نظرية الاعتراف انطلاقاً من روسو ومن سبقوه في الأخلاقوية الفرنسية في القرن السابع عشر، مؤكداً أن تراجع النظام القديم، الذي كان يتمحور حول الإله، وانتقال الدول الأوروبية من النظام الفيودالي إلى المجتمع الطبقي الحديث، دفع الإنسان للتساؤل عن مكانه داخل المجتمع، وإلى التساؤل عن الاعتراف الاجتماعي في أرجاء واسعة من أوروبا.
وبالفعل، تعرّض روسو في كتابه "خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر" إلى التأثير السلبي للأثرة amour propre ودوره الأساسي في ارتفاع التفاوت الاجتماعي بين البشر. ويرى هونيث أنه على الرغم من أن موضوع الخطاب هو بدرجة أولى التفاوت الاجتماعي، إلا أن مفهوم "الأثرة" يشكل مركز ثقله النظري. هذه الأثرة التي لا علاقة لها بحب الذات الطبيعي، كما يرى روسو، ولكنها تدخل في باب الطبيعة الثانية للبشر، وبلغة أخرى، إنها تنشأ ثقافياً وتتحول عبر العادة إلى جزء منا. إنها، بخلاف ما يسميه روسو بـ"حب الذات" amour de soi، تربط أفعالنا بالحكم الذي يصدره عليها الآخرون، لأننا ننتظر من خلالها اعترافهم وتأكيدهم لأفعالنا.
وقد أوضح هونيث ذلك بالإشارة إلى التعبير الذي استعمله روسو في التفريق بين حب الذات الطبيعي والأثرة، والذي يرى أن الإنسان في حب الذات لا يعرف سوى نفسه كشاهد على ذلك، في حين أنه في الأثرة يحتاج للآخرين كـ"قاض" يحكم على أفعاله. لكن هذه الحاجة إلى اعتراف الآخرين، تتخذ معنى سلبياً لدى روسو الذي يرى فيها نوعاً من فقدان الذات، وهو ما سيتطوّر في ما بعد، لدى سارتر مثلاً إلى تعبير عن فقدان للحرية، ويرى هونيث أن ذلك يعود إلى أن روسو وسارتر يفهمان الاعتراف في نوع من الاختزالية النظرية بعيداً عن الجانب الأخلاقي من المسألة.
يؤكد هونيث أن الفلسفة الفرنسية ومنذ القرن السابع عشر تنظر إلى الاعتراف والبيذاتية دوماً بعين متشككة، وسيستمر ذلك مع التيار الذي أراد تجاوز فينومينولوجيا سارتر، ويعني به هونيث ما بعد البنيويين وعلى رأسهم ألتوسير وجاك لاكان، إذ يرى عند لاكان تكراراً لما وجده عند لاروشفوكو أو روسو، أو حتى سارتر، أي ذلك الجمع بين فقدان الذات والاعتراف، فعند لاكان مثلاً، فإن الذات المرتبطة عبر الاعتراف بالآخرين، تفقد نفسها في حكم الآخر عليها، وتنشطر أناها إلى جزء واع وجزء آخر لا سبيل لبلوغه.
ينتقل هونيث في الفصل الثالث من كتابه، لبحث مفهوم الاعتراف وتطوّره في الفلسفة الإنكليزية من دافيد هيوم إلى جون ستيوارت مِل. ففي الوقت الذي كان فيه مفهوم الأثرة السلبي حاملَ البيذاتية الإنسانية في فرنسا، فإن السياق البريطاني سيعرف استعمالاً لمفهوم آخر هو مفهوم التعاطف Sympathy والذي سيتخذ منذ بداية ظهوره مضموناً إيجابياً.
ويرى هونيث أن شافتسبيري بأنثروبولوجيته المتفائلة، كان أول من عبّد الطريق للاستعمال الايجابي للاعتراف في بريطانيا، كما عبّد لاروشفوكو، بأنثروبولوجيته المتشككة، الطريق لاستعماله السلبي في السياق الفرنسي. ويرى هيوم أيضاً، في كتابه "رسالة في الطبيعة البشرية"، في التعاطف قدرة طبيعية للإنسان تسمح له بمعرفة الوضعيات العقلية للآخرين وفي الآن نفسه استشعارها داخله.
وهكذا، فهناك حيث يعني الارتباط بالاعتراف لدى روسو، ضرورة الخضوع لرأي الآخرين، فإنه يعني لدى هيوم الاعتراف بالسلطة المعيارية للآخر، وحقه في تحديد أفعالنا، ويربط هونيث الاختلاف بين الفيلسوفين بالتقاليد الفلسفية التي حكمت ثقافتهما، ففي الوقت الذي ترعرع فيه روسو فلسفياً في ظل الأخلاقوية الفرنسية التي طبعتها صورة سلبية عن الإنسان في القرن السادس عشر، فإن هيوم قد تأثر بالأنثروبولوجيا المتفائلة لإيرل شافتسبري وفرانسيس هاتشيسون.
وسيُدلي آدم سميث بدلوه في النقاش الذي شهده السياق الفلسفي الأوروبي حول العلاقة بين الارتباط بالذات والبيذاتية، وسيطلق اسم "الماديين" على الفلاسفة الذين أكدوا الأنانية البشرية، ومنهم التيار الفرنسي المرتبط بفكرة الأثرة، في حين سينتصر لموقف الفلاسفة الاسكتلنديين الذين أكدوا البيذاتية باعتبارها تتأسس على القدرة على التعاطف، وسيكتب في "نظرية العواطف البشرية" بأن الأمر يتعلق لدى الماديين بفهم خاطئ لنظام التعاطف، مؤكداً أن سلوكنا الأخلاقي يرتبط وفي اضطراد بالاعتراف الاجتماعي، بل حتى في المجال الاقتصادي، سيحاول، كما أوضح هونيث، أن يجد موطئ قدم للاعتراف، حتى وإن لم يدعم تدخل الدولة في مجرى السوق، إلا أنه فكّر في كتابه "ثروة الأمم"، في وسائل للحد من السلوكيات الأنانية في المجال الاقتصادي.
أما بالنسبة لجون ستيورات مِل، فإن السؤال حول المكانة التي يحتلها والدور الذي يلعبه الآخر في نظامنا التحفيزي، لا يمتلك أهمية أساسية، إذ على الرغم من أنه تعرض لهذه القضية في كتابه "النفعية"، كما فعل سميث، متسائلاً إلى أي درجة يملك الإنسان "عواطف اجتماعية"، لكن ما يهمه هو علاقة الاعتراف في وظيفتها الاجتماعية والسياسية، وهو ما سيطوره خصوصاً في كتابه "عن الحرية"، حتى وإن عبّر عن رأيه بوضوح في "النفعية" من أن الخوف من إثارة استياء الآخرين هو ما يدفعنا للخضوع لإرادة الجماعة.
سيعمد هونيث في الفصل الرابع من كتابه، إلى اقتفاء تطور مفهوم الاعتراف في الفلسفة الألمانية من كانط وحتى هيغل. إذ يرى هونيث أنه يمكن الوقوف على فكرة الاعتراف منذ كتابات صامويل بوفندورف ولايبنيتز، فكلاهما تحدّث عن الطبيعة الاجتماعية للبشر. لكن فكرة الاعتراف ستعرف ولادتها الحقيقية مع كانط أو بفضل النسق الفلسفي الذي أسس له. إذ حسب هونيث، فإن كانط أول من انتبه لهذه الفكرة، وأن أول من فكر فيها هو فيشته، في حين أن الفكرة ستعرف اكتمالها مع هيغل. فإذا كان مفهوم الأثرة في فرنسا ومفهوم التعاطف في إنكلترا قد وضعا حجر الأساس للتفكير في الاعتراف داخل هذه السياقات، فإن مفهوم الاحترام Achtung الكانطي هو من سيقوم بهذا الدور في السياق الألماني.
ويعرّف كانط الاحترام في "أسس ميتافيزيقا الأخلاق" قائلاً: "في الواقع، إن الاحترام هو تصوّر عن قيمة، تضع حداً لأنانيتي". ومن الاحترام الكانطي سينطلق كل من فيشته وهيغل لتأسيس مفهومهما الخاص عن الاعتراف، ففيشته سيكرّر مراراً في "أسس القانون الطبيعي" العبارة التي تذكّرنا بما كتبه كانط، والتي تقول بالتقييد الذاتي الحر للحرية الذاتية، وفيشته هو أيضاً من سيطبع مفهوم الاعتراف في الثقافة الألمانية، بمقولته الشهيرة: "لا أحد يمكنه الاعتراف بالآخر، إذا لم يعترف الاثنان ببعضهما البعض، ولا أحد يمكنه أن يعامل الآخر ككائن حر، إذا لم تتم معاملته هو الآخر ككائن حر"، بل فقط في الاعتراف تخبر الذات نفسها ككائن عاقل، بل عبر الاعتراف فقط، تكتشف الذات حريتها.
وعلى الرغم من ذلك، فإن هونيث يرى أن مفهوم الاعتراف عند فيشته ظل يتحرك على أرض كانطية، وأنه يرتبط بذوات "لا لحم ولا دم لها". ولربما لم يكن لأفكار فيشته حول الاعتراف أن يكون لها تاثير داخل السياق الألماني، إن لم يعمد هيغل، سنوات بعد ذلك، إلى تطوير مفهوم للاعتراف أكثر أمبيريقية.
إن الطريق من فيشته إلى هيغل، كما كتب هونيث، تقوم على "نزع الطابع الترنسندنتالي عن الاعتراف الذي يتحقق بين الذوات كما وصفه فيشته"، فهي لن تكون طريقاً ترنسندنتالية ولكن فينومينولوجية. إذ سيعمد هيغل إلى "نقل مفهوم الاحترام الكانطي إلى السوسيولوجي والتاريخي" كما يؤكد هونيث، وهو الأمر نفسه الذي يمكننا أن نقوله أيضاً عن الواجب الأخلاقي الكانطي، الذي سيخرجه هيغل من داخل الذات، ليفهمه كمشروع تعاوني، نخلق فيه كذوات المعايير التي نعترف جميعاً بسلطتها.