■ ما الذي يشغلكِ هذه الأيام؟
- يشغلني بلدي والخطر المحيق به. يشغلني الهمّ العام وكوارث العرب. ولذا، ومنذ "الربيع العربيّ"، فأنا مسمرة على وسائل التواصل الاجتماعي طوال الليل والنهار تقريباً، أقود وأروج حملات لدعم الحراك التنويري والعلماني والمجتمع المدني وضد التطبيع وما يتبعه، وضد القوانين والممارسات التي تضطهد المرأة، وضد الإسلام السياسي الذي يستعمل الدين للتحكم وبلوغ الحكم ونشر التخلف. حملات لدعم الحريات العامة والديموقراطية وتثوير التربية والتعليم، وترويج حملات آفاز لحماية العالم من مسببي الكوارث العالمية.... وغير ذلك. وقد أنتج هذا الحراك أني ساهمتُ مع عدد من أصحاب الهمة في تأسيس "صندوق أصدقاء الطلبة"، و"مجتمع النهضة التربوي"، أما "تيار تنوير الأردني" فنأمل أن نفرغَ من تأسيسه الرسمي في الأسابيع القادمة، حيث نبني شبكة تشمل جميع المبادرات والمنظمات والهيئات التي تنتمي واقعاً أو تنظيراً إلى الفكر التنويري، وننهض كقوة ضغط باتجاه مجتمع ديموقراطي ومدني لا مكان فيه لأشكال الخلل التي تسكن مجتمعنا الآن... وهذا ما أثار عليّ الأعداء التقليديين للديموقراطية والحرية الفكرية والعلمانيّة، فتعرّضتُ، مع آخرين تجرأوا على الاستبداد الإسلاموي، خلال العام الأخير، لحملاتٍ ثلاث تهدد حياتي على نحو ما أصاب الكاتب ناهض حتر، وتغتال سمعتي، وتكفّرني، وتطعن في شرفي، باستعمال أقذر الألفاظ وأسوأ العبارات العنصريّة. وفي هذا الغمار لا أنسى أنني شاعرة، فأكتب الشعر وأنشره، وأعاني في الأثناء لوعات الحبّ، كقبسٍ يردُّ الروحَ إليَّ، ويؤنسها في معمعان هذا الخراب، ويمدّ في عمر تجربتي الشعريّة. فأنا لا أكتب عن الحب مما قرأت في مدوّنة الحب العربيّة والأجنبيّة، بل من صميمِ موتي في الحب.
■ ما هو آخر عمل صدر لكِ وما هو عملكِ القادم؟
- آخر عملين هما "البلبال: أبوابٌ في الوجدِ والكرى" عن دار نينوى في دمشق (2016)، و"أزرق تشطره نحلة" (2017، دار دلمون الجديدة، دمشق). وهناك ما هو مدفوعٌ إلى النشر في مصر "النوارس تريد أفكاراً واضحة". وأعدُّ الآن للنشر مجموعتين هما: "مثلَ أنَّكَ/أنَّه الحبُّ"، و"سِفرُ النون". وهما مما كتبتُ في السنوات الثلاث الأخيرة. وأمامي مهمةٌ شاقةٌ هي التنقيبُ في مخطوطاتي القديمة والشغل عليها، وإخراجُ ما أرضى عنه إلى النور.
■ هل أنت راضية عن إنتاجكِ ولماذا؟
- حاولتُ منذ بدأتُ النشرَ متأخرةً، بسبب ظروف أعاقتني حوالي ربع قرن، أن أمتلك نبرتي وقاموسي اللغوي الخاص، وأن أنفتحَ على التجريب، ثم أن أمضي في استكناه مناطق في الشعر جديدةٍ عليّ؛ مثلما فعلتُ في مجموعتي "تراتيل الكاهنة ووصايا الريش" (2000)، وفي "للمزاج العالي" (2005) حيث سيطرَ عليّ هاجسُ أنَّ العالمَ نصٌّ شعريٌ كبير، وأن الشعرَ مبذولٌ في مفرداته (أي العالم)، فذهبتُ إلى التفكيكيّة التي خدمت هذا الهاجس. كما وجدتني في مرحلة تالية أشتغل على المجاز، ومن ذلك "جوى" (2007) و"في ثناء الجميل" (2008). ورأيتني أذهبُ إلى ما يشبه السيرة الشعرية في "دفتر الرائحة" (2013)، كما وجدتني أشتغل على كتابة المحو أو تكثيف التكثيف في مجموعات لم تنشر بعد. وبهذا المعنى أنا راضيةٌ عن أني جرّبتُ وعن أني أخضعتُ مساري للتنوّع، هذا المسار الذي لم يكترثْ به النقدُ جدّيّاً حتى الآن! ولكن من المستحيل أن أرضى عن شعري إطلاقاً، حيثُ ما تزالُ هناك بقعٌ في الشعر أودُّ تسلّقها ولو على عكازتيّ، ولا أعرف ما هي هذه البقع تحديداً، وإن كانت تتخايلُ لي بين وعيي ولا وعيي، فإني أشعر أنَّ هناكَ في داخلي مرجلاً يغلي بمواد العمر وخبراته، وأنَّ ما نشرته حتى الآن ليس سوى أقل القليل. ربما هو غرورُ الإيغو الشاعرة، ولكنه غرور إيجابيٌّ أحرصُ عليه، لأنه يغذّي تشوّفي إلى التجربة في اختلافها وتنوّعها واستمرارها.
■ لو قيّض لكِ البدء من جديد، أيّ مسار كنت ستختارين؟
- من المؤكَّد أن الكتابةَ عموماً وكتابة الشعر على وجه الخصوص، تمنحاني سعادةً لا تشبهها سعادة؛ ولذا فهذا اختياري دوماً. وإلى ذلكَ ما كنتُ قبلتُ بدخول مؤسّسةِ الزواج أبداً ولا إنجاب الأطفالِ من ثمَّ. فهذا مسارٌ كانت آلامه مبرّحة، وهو لا يستقيمُ مع توقي للحريّة الذي لم يبرحني منذ كنت طفلة. غير أني لا يمكن أن أعود إلى أول الحياة دون أن ألبي نزوعي نحو الفنون التشكيليّة والموسيقى، إذ ينبغي لي عندئذٍ أن أنصرف إلى تعلم هذه الفنون التي تشتغل في نفسي بمبدأ الأواني المستطرقة.
■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟
- العدل وموت الجشع، مما يعني انعدام الحروب وشيوع السلام، والتوقف عن التسبب في تدمير كوكبنا الجميل، بيئةً ومآلاً. والعدلُ يشملُ القضاء على الفقر وعلى التمييز العنصري والطبقي والجندري وأشكال التمييز الأخرى التي تهين الإنسانيّة.
■ شخصية من الماضي تودّين لقاءها، ولماذا هي بالذات؟
- يخطرُ في بالي عدد من نساء الماضي: الفيلسوفة الإسكندرانية هيباتيا التي لقيت مصيراً بشعاً على يد غوغاء عصرها مغسولي الأدمغة ممن رأوا في علمها وفكرها الرافض للشعوذة، سحراً، وعلى خلفيّة تكفيرها سُحِلَت وقُشِّرَ جلدُها وهي حيّة حتى لفظت أنفاسها. كما تخطرُ في بالي الزبّاء أو زنوبيا ملكة تدمر التي شكلت تهديداً لمملكة روما عندما استردّت منها سورية. كما تخطرُ أيضاً شجرةُ الدرّ الطموح والتي كان طموحها إلى المُلكِ وبالاً عليها، وانتهت حياتُها بقتلها في الحمام ضرباً بالقباقيب. ولرغبتي في لقاء كلٍّ من هؤلاء سبب، ولكنّ أقواها هيباتيا (370-415 م)؛ هذه المرأة العالمة بالفلك والرياضيات الفيلسوفة المخترعة، ابنة مرحلة غنية بالمعرفةِ، سليلة الفلسفة اليونانية وتلميذة عظمائها. وقد كان مقتلها البشع نهاية للعصر الكلاسيكي القديم تبعه انحدار شديد في الحياة الفكرية الإسكندريّة. ولكنتُ سألتها: كيفَ كان ممكناً مواجهة بوادر الانحدار الثقافي في الإسكندرية آنئذٍ، الذي يشبه انحدارنا العربي الحالي؟
■ صديق يخطر على بالك أو كتاب تعودين إليه دائماً؟
- صديق قديم أعود إلى قراءة كتابه "الإشارات الإلهية" الذي يلبي نزوعي إلى اللغة البصيرة النورانيّة واللغة المغسولة بماء المطر... أبو حيان التوحيدي.
■ ماذا تقرئين الآن؟
- أنا أقرأ بالجملة، إذ لا قدرةَ لي على الانصرافِ إلى كتابٍ واحد، كما في الحبّ. فمن حصاد معرض الكتاب الأخير في عمان أقرأ في مجموعات شعرية للشاعر السعودي الصديق أحمد المُلا، وفي ديوان صديقتي السوريّة رشا عمران "التي سكنت البيت قبلي" وهو مجموعة آسرة، وأقرأ كتاباً مهماً للكاتب الأردني إبراهيم الغرايبة "من الدعوة إلى السياسة: الإخوان المسلمون في الأردن، تاريخهم وأفكارهم"، وديوان شعري لصديقتي الفلسطينية ليانا بدر "أقمار"، وفي "نوستوس" لصديقي المعماري العراقي معاذ ألوسي، وفي رواية صديقي الأردني الناقد إبراهيم السعافين "الطريق إلى سُحماتا".... قراءات متنوعة بين الشعر والرواية والذكريات والدراسة... وهذا لا يزعجني البتة.
■ ماذا تسمعين الآن وهل تقترحين علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟
- يتراوح الاستماع عندي بين حديثِ فيروز في مرحلة الجاز لابنها زياد، متل "بتذكر بالخريف"، وبين الغناء اللاتيني المجروح مثل مرسيدس سوسا، مثل Gracia a la Vida، وبين الكلاسيك الغربي الذي لا أبتعد عنه، ومنه "كارمينا بورانا" والتاسعة لبيتهوفن، كما أكرر الاستماع إلى صوت ابنتي ربى صقر.
بطاقة: رغم أنها بدأت الكتابة باكراً، إلا أن زليخة أبو ريشة (عكا 1942) لم تصدر مجموعتها الشعرية الأولى "تراشق الخفاء" إلا عام 1998، ثم صدر لها عدة مجموعات منها؛ "تراتيل الكاهنة ووصايا الريش" (1999)، و"كلام منحّى" (2005)، و"دفتر الرائحة" (2014). كتبت أبو ريشة بعض الدراسات النسوية، من بينها "اللغة الغائبة: نحو لغة غير جنسويّة" (1996)، و"أنثى اللغة" (2009) و"البلبال" (2015).