(1)
"كلّ أثر فنّيّ عزلةٌ قَيْدَ التشييد"، قال الربُّ في ظلمته السريّة قبل أن يشرَع بالخلق في اليوم السادس.
(2)
علّقتُ الملابس في الغرفة كي تجفّ تحت كلمة شمس. تقطّر الماء على كلمات صحيفة وإسمنت فشكّلَ بحيرة. تخيّلتُ كلمة سمكة ذهبية تسبح أمام طاولتي الخشبية. صببتُ القهوة في الكوب. لكنني لم أستطع أن أقرأ تحته كلمة ضوء.
قطيع من فيَلةِ الحرب مرّت إزاءَ النافذة. عجوز هزيل يداهنُ صليباً فيسرع إليه ليطهره من سحر الأرواح الشريرة. لو قلتَ الشاطئ بدلَ الصحراء لانبجَستِ الفراشاتُ الصفراء من أدراج يديه المتثائبة.
تفكّرتُ مليّاً في حياتي الروحية بذلك التركيز الذي جعل الأيقونةَ المثبتة قبالتي تذرف دمعة.
(3)
في داخلي عِقْدُ سنواتٍ كوبيٌّ منسيٌّ. الحيطان تحفل بالبعوض. الحنفية تنقّط نطافاً بيضاء. وبجعات الحديقة مصنوعة من أسلاك شائكة.
نستقرّ على الكراسي البلاستيكية والنادلة تعاملنا على أننا أجانب. في كلّ ظهيرة يلفظُ حوتٌ يونانَ (يونسَ) يبشّر بخلاصنا (لكن أحبَّ بعضُنا الآخر لسنوات عديدة). نبتكر الدهشة، نهتف لها، ونهرع لكي نصافح الشاطئ.
(4)
كلُّ امرأة حبلى ساعةٌ رملية. السيد نوح على متن فلكه. ينادينا من تحت نوافذنا البرونزية، ويدقّ على أبوابنا البرونزية، لكن لا أحد يريد اللحاقَ به تاركاً لوحتَه "عذراء الأسماك" – غير أنها لا تأخذ الأمر بالاعتبار بما هي رَسْمٌ لـ رافائيل.
كلّ طفولةٍ أُضحيةٌ لـ إسحاق أو لكبش، بحسب الغرض التحليلي قبل أن تقاطعه الاتصالات الهاتفية للذبّاحين في الجوار.
كلّ ركنٍ من حديقة مراهقتنا هو بستانُ لبلاب معرّش، قد يستر حمّام "بثشبع" العاريةِ. عثّةٌ تلامس ركَبَنا حين المرور فتثير فينا الارتعاش.
كلّ بحرٍ نعبره هو البحر الأحمر وجحافل الفراعنة تتقاطر خلفنا في صباح ما. "ألوف اللحظات فُقدتْ" كما يكتب صحافيون عُصابيون ثم يُوْدِعون الأزهار على قبر مدام توسو.
كلّ صَلْبٍ هو شنقُ يهوذا أجوفٍ وأمهاتٌ منتحبات. المرأة المنتحبة عالَمٌ يأفل. لم يعد مفتاح التمثال بحوزتك وتُدرك أن صوت زيزِ الحصاد المتوحِّد سيُخرَس. رصيف الميناء يعجّ بحقائب السفر الخضراء. والسيد نوح يفتح مظلته ويسافر في دفقِ هنريك غوريسكي الدائم.
ليس الأمرُ هنريك غوريسكي، وإنما الصوت الذي لا مُجيب له، للرب الذي يزرع بذار الرمان الذهبيةَ في المياه قبل إحالة العالم إلى الطهر من جديد.
(5)
تدفقتِ الغيمة خارج إطار الصورة. حيث ركَن الرجل الأعرج عكازَه. حيث ترك الولدُ دراجته. والآن غرقت كلّ العناصر في السلوان.
رهينَ غرفةٍ أسمع جريان الماء - إحساس المحيط. في نومي تتلوّن السماء بالصدأ، وتلتمع الشمس ببريق أنياب كلب آنَ، يقرأ سيكليانوس قصيدة على أسماعي وبيده سيف. أتُراه يراني في حلمه حين أتلو أشعاره، مجرد تساؤل؟
غداً سأُطلق طائرَ عنقاء وأتركه يحلّق في السماء. فإن لم يعد مع حلول الليل سنكون قد بلغنا قمةَ أرارات.
حينذاك سأعاودُ الكتابة عنك.
(6)
صندوقُ ورق مقوى مليء بجماجم الأغنام. بنتُ ما بعد منتصف الليل تحمل شمعة، تكشف عن وردة بيضاء وقفازٍ أحمر خارج حجرتها. ثمة تمثال نصفيّ على كرسيّ من عيدان النخيل- إلى جوار كناريٍّ حلَّ مكانَ هالةِ التقديس. هناك منحوتة من الجصّ ليسوع. وآلة كاتبة لي أستعملها لتدوين كتاباتي.
كأس تُركت عند العتبة. سمكة مصلوبة. صورة لتمثال العذراء توسّد ابنها الميت حُضنها. الكلب العابر الذي ترك آثار براثنه على الشرشف. الجو مليء بالمظلّات، حافل بزغب الهندباء. هو ذا الوقت الأمثل للتملّص من القديسين والشعراء. الكلُّ في دأبه. الشقة خاوية الآن؛ كلّ ما تبقى هي تلك الآلة الكاتبة التي تدون عليها أفكارك.
(7 - أ)
إلى فرجينيا
أنتِ ذاك التكوين المتكسّر حين الشفق، تند عنه رائحة النار إذ لم يُروَّضْ من قبلُ. أنتِ الريح التي تعصفُ بكلماتي المقهورة وتُحيلها قمحاً نلملمه فنحظى بالخبز على مائدة الغد. أنتِ الْتِماسُ القبلة الآتية، التي تستدعي ذكرى سابقتِها، مع عينيّ ذلك الكلب الذي أقرَّتْ نظرته بالعرفان، لملاطفتك له في يوم من أيام الآحاد. أنتِ إغواءُ شفيرٍ وحديقةٍ بلا حدود، تحفل بأشجار التفاح والنهاياتِ العصيّة للقصيدة. أنت الكهرباء في شهر آبٍ، إسباني لحظة ينسدل الليل على ضفة النهر، وأنت تحيطين كتفيك بسترة صوفية حمراء. أنت مدينة يلفّ الرذاذُ مقاطعها اللفظية: أنت أغنيةُ أغنياتي.
(7 - ب)
لأن هناك غرفة فارغة حيث تنير يداك البيضاوان لياليَّ. لأن هناك سريراً تُكلل وسطَه مظلةٌ هندية تقينا أعينَ الآخرين، عاريين من الثياب والذاكرة؛ لأن ثمة كلباً وزرافة قد رُبطا إلى نهاية السرير.
لأن هناك منضدة لصقَ السرير حيث تضعين اسمكِ الشفيفَ، وأضع يديَّ الفائضتين عن الحاجة. لأن هناك في درج المنضدة دفتراً نكتب عليه قصيدتنا المشتركة ثم نجدُ أن أحداً آخر سبقنا إلى كتابتها.
فليكن، أنا ذلك الآخَرُ السرمديّ وأنتِ أغنيةُ أغنياتي. وستُثلجُ كلَّ ظهيرة في الغرفة بذلك الدفق الذي يخلخل ترتيب صورنا على الحيطان لتعانق إحداها الأخرى.
(8)
ومن ثم أعتزم الانتقال إلى بيرايوس، لأن الأم تيريزا لم تكفّ عن مخاطبتي بعد انبعاثها، كي تقرأ على أسماعي بعض الشعر فأعجز عن النوم.
(9)
مسيلٌ بارد من الخراب، ومَحْقِ الحدائق. ضوءٌ كَليلٌ يخاتلُ حافّةَ الطريق الترابية المؤدية إلى المأوى. علقت على الأسلاكِ الشائكة ضفائر وخصلات من ندفِ الصوف لغنمةٍ تجوس السماءَ بدلاً من الغيوم.
إنها من ريح أمسكها القديس سيزاريو بقفازه من أجل خاطر الفحّام ومربّي الخنازير. إنها من الغراب الذي يأتيك بلحمك وخبزك اليوميين. إنها من الآنسات ذوات اللباس الأبيض اللائي يرسمن الصليب على نوافذ البرج فيُلقين الروعَ في الحارس الليلي. "صلِّ لأجلنا لعلنا نعود إلى الحياة"، يتضرعن بطريقة تتفطر لها القلوب. "مرهَقات من التطلّع في مناظر هوبر مفتوحة الأمداء".
لو تنضاف إلى تلك الأشياء جرعة من قمر صغير، لخسرتم حقَّ بكورتكم في ليلة واحدة. ونعم، نعترف بأننا نصلي لكن ليس هناك مَن يصغي.
(10)
كان الجوّ لاهباً. من حيث لا يدري أحد ظهر ثلاثة رجال في حرارة منتصف الظهيرة. عرضتُ عليهم ماءً وخبزاً فأسبغوا بركاتهم عليّ. ثم أظلمتِ السماء.
قدِموا لكي يُبلغوا أنه قد خسر كل شيء: الغارات والموت والحرائق. حتى الضوء نزفَ في الخارج. لم يبكِ. لكن السماء أمطرت بغزارة حينذاك حتى امّحتِ الأسماءُ عن القبور. ثم أظلمتِ السماء.
وأغنية "قف إلى جواري" تصدح ومراسم الاستقبال على الشرفة تتم على أكمل وجه، بدر صوت داخليّ دفعه للنهوض والتوجه وحيداً نحو النهر. ترامى إليه نداؤهم من البعيد "يا أليعازر، يا أليعازر"، لكنه لم يعُد. ثم أظلمتِ السماء.
أبداً سيحلّ الليل ويعقبه الصباح. وأبداً سيرى الربُّ في ذلك خيراً وأننا، إذ نضيع في متاهة شؤوننا الرتيبة، سوف نحبو عراةً. بالطريقة ذاتها التي جئنا بها إلى الحياة.
(11)
عند المساء وصل ملاكان. آويناهما وحميناهما بحياتنا. لا تمطر السماءُ اليومَ ملحاً على أرديتنا الكهنوتية الجلدية. ليستِ الشمسُ مصباحاً باهتاً يتدلى من السماء. هكذا أعتقدُ.
اليوم، ثمة بحرٌ لألاءٌ يسلبني صمتيَ. كلب سيميريّ يتراكض على الشاطئ. أبتهجُ للأصداف المتكسرة والحصى، أمشي فوق الماء. ليس للمدى حدود.
أومنُ بآلات البيانو والقطط، بمساكب الزهر البريّ التي غزاها العشب الطبيعي. أُومنُ بالقدّاس البيزنطي، الشموع المشتعلة والقديسين. أومنُ بزوجتي، أومن بأطفالي. لا تغيبُ الشمسُ قطُّ عن نهاري.
(بعد ردح الزمن المديد هذا، أعرف ما الكلمات التي تضبط كوابيسكم. وبوسعي أن أقولها حين تشاؤون).
(12)
فوق غيوم مدينتنا، هناك مدينة أخرى موثقة بالحبال. الدخان المتصاعد من مدافئنا هو أشجارُ فاكهتها، وأحلامُ صغارنا هي ندف الثلج التي تتوّج أبراجَها القوطيّة، كلماتنا الصافية هي صوامع الغلال التي تُقيت الثديّات، المنقرضة في عالمنا، وذلك ما يجعلها تكمل حياتها هناك بكل طمأنينة. ينبتُ القمح والفزّاعاتُ حتى في المنازل، تعوم البجعات بمهابة في أقنية المدينة ثم لن يكلفك الأمرُ إلا بعض حليبٍ في طبقٍ كي يطلعَ القمرُ الخبيءُ في حديقتك. هو ذا المكان الذي يقطنه جامعُ الغربان، وعائلة كاسكابيل، ومحنِّطُ لينين ويوحنا الإنجيلي. هو ذا المكان حيث يقيم القديس باسترناك مع قصيدته المحظورة "هاملت"، والقديس شمشون المضياف بأظافره المقروضة.
ثمة ما لا يُعدّ من سلالمَ وأبواب سحرية ومسالك سرية أخرى لبلوغ المدينة العُلوية. أرتقي إليها بتبديد نفسي في عينيّ قطّتك الخضراوين.
* Dimitris Angelis شاعر وقاص وأستاذ فلسفة يوناني من مواليد أثينا عام 1973، يعتبر من أبرز الأسماء الشعرية في المشهد الشعري الجديد في بلده. عمل مديراً لتحرير المجلة الأدبية "المسؤولية الجديدة" Nea Efthini في الفترة ما بين 2010 و2013 وهو رئيس تحرير وناشر مجلة "فرير" الشعرية.
حصل أنغيليس على جائزة "ليريك لامبروس بورفيراس" الشعرية من "أكاديمية أثينا"، عن مجموعته "ذكرى سنوية" (2008)، كما صدرت له خمس مجموعات أخرى من بينها: "فيلوميلا" (1998)، و"مياه أسطورية" (2003)، و"غزال ينتحب على سريري" (الصورة، 2015).
** ترجمة: أحمد م. أحمد