بموازاة تطوّره الحضاري، تطوّرت ملكة السرد مع الإنسان وصولاً إلى عصرنا الحالي الذي شهد طفرته ثم تداخله مع فنون وتمظهرات عديدة.
يسعى الناقد العراقي علي كاظم داود، من خلال كتابه "عصر السرد" الصادر حديثاً عن دار "الفراشة" في الكويت، إلى وضع تصحيح لمكانة السرد وإعادة الاعتبار له بوصفه "العنصر المشترك في تكوين الآداب والفنون المعاصرة والجنس الأدبي الأرفع في عصرنا".
ينطلق داود في الفصل الأول من محاولة إثبات "مركزية السرد" في الفنون الأدبية المعاصرة مثل الرواية والقصة، فبفضل مرونته وتمثله لروح العصر استطاع أن يتشكل كعامل التقاء متين بين هذه الأجناس. ثم يستعرض بالتفصيل هذا الالتقاء، متخذاً نماذج تطبيقية تبيّن أن الفنون التي نجحت في استثمار تقنيات السرد المتنوعة تمكنت من تسيّد المشهد الأدبي، إذ يقول عن الرواية، إن ظاهرتها نابعة من كونها "بنت السرد ونوعه المفضل".
في الفصل الثاني، يواصل الكاتب اكتشاف "تغلغل السرد في فنون أخرى"، مثل الشعر والمقالة والرسم، وهي فنون أنشأت معه "علاقة تبادلية"، ينتفع منها السرد كما هو الحال مع الفنون البصرية مثل التصوير والرسم، فيما تستفيد هي من تجدده ومواكبته الدائمة لروح العصر، ويضرب مثلاً هنا قصيدة النثر.
يحاول الكاتب في الفصل الثالث الربط بين السرد والخيال، مراوحاً بين ثيمات عديدة مثل المرأة أو الهوية أو الحرب؛ ويتضح في هذا الفصل تحديداً سبب استجارة الكاتب بلغة أدبية وتخليه عن لغة باتت تُعرف بها الكتابة النقدية، مُرجعاً ذلك إلى "طبيعة الموضوعات" التي عالجها، إذ إن اللجوء لهذا السجل اللغوي يسهّل نسبياً من مهمة العثور على روابط متينة وحقيقية بين السرد ونواحي الحياة المختلفة.
كما يعرض الكاتب للعلاقة بين السرد والمرأة، إذ يحاول باقتضاب رصد سمات السرد النسائي العربي، والتي تشير حسب الكاتب إلى حضور "الذاتي والشاعري" في معظم التجارب السردية النسوية، رادّاً ذلك للسياق العربي الذي أنتج هذه التجارب ضمن سياقه الخاص.
ومن أجل مواكبة عصر السرد، يبدو أن الكاتب لجأ إلى الاقتضاب في عرض موضوعاته، مبرراً ذلك "بصعوبة الإحاطة والاستقصاء في مؤلف واحد"، وهو ما اتضح جلياً في عدم تعرضه لفنون مهمة مثل المسرح والسينما، والتي تُعرف بتداخلها مع السرد، وبتنافرها معه في نفس الوقت.