عندما يتفرّد الفن، ويكون بمقدوره أن يبعث الحواس دفعةً واحدةً في جسد المرئي، فإنه لا يكتفي بما يشيعه من متع بصرية، أو تعبيرية فقط، بل يستحيل بكليّته إلى تلك الصورة التي يصبح معها المرئي تجسيداً للمذاق والرائحة والملمس، إذا ما كانت المرئيات نفسها من عطايا النيل التي منحها الفنان السوداني عبد القادر البخيت (1966) وعداً بحياة أخرى في معرضه الجديد "نسيم النيل".
ومع تقاطع المخيال مع المُعاش الذي خبره الفنان في حوض النيل، قبل أن يقيم في عمّان منذ أكثر من 20 عاماً؛ شرع بتأثيث مرئياته من فيض النهر، ساحباً نسيم الماء من مسقط رأسه في قرية مجدوب غربي السودان، إلى جدران غاليري "الأندى" حيث تُعرض أعماله في عمّان.
الصيغة التفاعلية بين مكونات لوحة البخيت تظهر بشكلٍ جلي في اتخاذه من "البِرْش" المصنوع من سعف النخيل على شاكلة البُسط التقليدية، حاملاً للملمس والتكوين والتعبير. لا يُعدّ توظيف البُسط سابقة جديدة في استخدام الفنان للمكونات التراثية والبيئية، فقد سبق له الرجوع إلى مخزون ذاكرته ومؤثثات بيئته، حين استخدم أصباغ النبات وجلد الحيوان، في تقديم أعمالٍ فنيّةٍ وثيقة الصلة بطقوس وجماليات القرى السودانية.
يقول البخيت لـ "العربي الجديد": "دائماً ما أجدني مشدوداً إلى تفاصيل ذاكرتي البعيدة، خاصة في مرحلة الطفولة التي احتضنتها قريتي الصغيرة "مجدوب"، ومن بعدها مدينة "الجزيرة آبا" غرب السودان، ثم الخرطوم بتنوعها الثقافي والبيئي. وبقيت طيلة نحو 20 عاماً، أطلّ على تلك التفاصيل بعيون مجهرية، من جبال عمّان".
يغطّي الفنان مساحة واسعة من الموروث السوداني بمصادره الثقافية المتنوعة، متكئاً على الأسطورة والشعر والأغنية والحكاية الشعبية. وهو حين يستلهم موضوعاته من تلك المصادر، لا يتوقف عند إغراءاتها السردية، بل يذهبُ مباشرة إلى معاينة ارتساماتها البصرية التي سرعان ما تكتسب على سطح لوحته، حياةً أخرى، بمذاقٍ وتعبير جديدين.
تماماً، كما في مجموعته "عذارى الحي" التي استمدها من أغنية الفنان والموسيقار السوداني عبد العزيز داؤود، وكذلك مجموعته "في غابة الأبنوس" التي استوحاها من قصائد الشاعر الفيتوري.
وبعد مرور نحو عقدين على إقامته في الأردن، يبيّن البخيت "بعد سنواتي الطويلة في عمّان، أخذت ذاكرتي السودانية تفرض وجودها في كل أعمالي الفنية. وهذا لا يعني عدم تأثر أعمالي بمحيطي وبيئتي الثانية في الأردن. ومن عمّان، تحديداً، بدأت أرى ما خبرته في السودان سابقاً، بعين أخرى تشكّلت مع التضاريس الجبليّة للمدينة. ومنها بدأت في تناول الظواهر المرئية بأكثر من زاوية، بخلاف الحال في السودان؛ إذ كنت، نتيجة الامتداد المسطّح للأرض، أتحرك مع المشهد البصري، ضمن نطاق محدود الزاويا".
البخيت الذي انحاز منذ بداياته الأولى قبل ربع قرن، إلى خياراته الجمالية وشروطه الإنسانية؛ انحاز في معرضه الجديد، إلى نسيم المرئي، وفتنة الحواس في حضرة النيل.