خلال سبعين عاماً وأكثر، شكّل الورق جزءاً أساسياً من تجربة بابلو بيكاسو، حيث نجد أثره في العديد من أعماله التي احتوت صفحات ممزّقة من الكتب وأوراق الشفافية (التي تستخدم في النسخ) وأجزاء من إيصالات المقهى، ومقتطفات من جداول مسطّرة؛ كلّها ظهرت كوسائط استخدمت على القماش أو في الخزف والحفر والطباعة.
سيظهر في ثلاثينيات القرن الماضي، هوَس بيكاسو بأنواع نادرة أو عتيقة من ورق ثبّت على بعضه علامات مائية خاصة به، كما وضع في عقد الستينيات مجموعة من الدراسات والنماذج المتسلسلة تبرز تأملاته التي اعتبرت وسيلة للتصالح مع رحيل صديقه الفنان هنري ماتيس.
"بيكاسو والورق" عنوان المعرض الذي يفتتح في الخامس والعشرين من الشهر الجاري في "الأكاديمية الملكية للفنون" في لندن، ويتواصل حتى الثالث عشر من نيسان/ إبريل المقبل، ويضمّ قرابة ثلاثمئة عمل تمّ اختيارها من جميع مراحل الفنان الإسباني (1881 – 1973).
تحتوي بعض المعروضات على التكوينات الأولى لعددٍ من الأعمال الرئيسية لصاحب لوحة "ثلاث نساء في الربيع"، وكأنها تمثّل سجلاً لأفكاره السريعة التي تبلورت بشكل أنضج في فترة لاحقة، ومنها رسوماته للطيور ومصارعة الثيران والخيول والماعز ووجوه النساء وغيرها، أو وسيطاً لتعلّم تقنيات جديدة، كما فعل عام 1958 حين تدرّب بنفسه على إحدى تقنيات الطباعة الملوّنة.
لم يرسم بيكاسو على الورق فقط، بحسب بيان الأكاديمية الذي يشير إلى أنه "مزّقه وأحرقه وجعله ثلاثي الأبعاد"، كما يتضح من دراسات تناولت لوحته الأشهر "غرنيكا"، حيث كان الورق "أداة لاستكشاف أفكاره والمواد مع إمكانيات لا حدود لها".
تُعرض لوحة "آنسات أفنيون" (1907) التي تنتمي إلى بدايات المرحلة التكعيبية، إلى جانب العديد من الدراسات حولها التي تضمّنت عيوناً غير طبيعية الشكل لخمس نساء وغير متناسقات، وهي جزء من تطويره للبورتريه التي ابتدأها في لوحته التي رسمها لغيرترود شتاين قبلها بعام، والتي لم يقتنع بعرضها إلّا بعد عدّة سنوات حتى ارتاح لأسلوبه الجديد في تداخل الأجساد مع الخلفية ضمن تشكيلات هندسية لأجساد لا معالم لها.
تعكس الأعمال كيف جرّب بيكاسو كلّ شيء من ورق الجرائد والمناديل إلى ورق الحائط المزخرف، ومنها رسوماته التعبيرية التي قادت إلى تنفيذ العديد من المنحوتات الضخمة والتي أعاد خلالها تدوير العديد من المواد المهملة، ضمن نزعاته في التعامل مع خامات غير مألوفة بالنسبة إليه.
يضمّ المعرض الذي يشترك في تنظيمه "متحف كليفلاند للفنون" و"متحف بيكاسو" في باريس، عدداً من مراسلات الفنان الشخصية وقصائد أُرفقت برسوماته، وكتبٍ مصوّرة، ونسخاً من الصحف ومغلفات بريدية لا تزال تحتفظ برسوماته عليها، إضافة إلى تجربته المشتركة في التصوير الفوتوغرافي مع الفنانة الفرنسية الكرواتية دورا مار، في محاولة لتقريب الصورة من السوريالية بأسلوب توثيقي في سلسلة من الأعمال التي صوّرها كلاهما في باريس.
كما يشمل لوحة "نساء في حمّامهن" التي رسمها الفنان بين عامَي 1937 و1938، مكوّنة من كولاج على ورقة تتجاوز مساحته أربعة أمتار ونصف مربعة، ولوحة "امرأة جالسة" (1932)، إضافة إلى نماذج أخرى تبيّن كيفية استخدام تقنيات الرسم بحمض خاص على المعدن أو الطباعة الحجرية أو أساليبه المختلفة من الرسم على الورق، ومعها منحوتات مثل "رأس امرأة" التي صمّمها من البرونز عام 1909، و"راع يحمل خروفاً" التي نفّذها سنة 1943، وإلى جوارهما جميع الرسومات وتخطيطات الحبر التي راكمها حتى وصل إلى جوهر المنحوتة التي يريد.