قبل أن يصدر إدوارد سعيد كتابه "الاستشراق" (1978)، بنصف قرن تقريباً، صدر في القدس عن "مطبعة بيت المقدس" كتاب بندلي الجوزي (1871 - 1942) "من الحركات الفكرية في الإسلام" (1928) بالعربية، متضمناً في مقدمته المرتكزات الأساسية لنقد الاستشراق ذاتها التي ارتكزت عليها رؤية سعيد النقدية.
ومن الملاحظ أن لا أحد ممن ترجم أو راجع كتاب "الاستشراق" نوه ولو بإشارة عابرة إلى ريادة الجوزي في هذا الحقل استناداً إلى نظرة علمية مبكرة وضعت أساساً لنقد الاستشراق توسّع فيه سعيد لاحقاً، باستثناء حسين مروة ربما في مقدمته للطبعة الثانية من كتاب الجوزي (1981)، حيث أشار إلى كشف الجوزي "للأساس غير العلمي للمنهج البرجوازي الغربي، وفضحه لاستنتاجاته المعادية للعلم التي تبنى على ذلك الأساس نفسه، ولا سيما الاستنتاجات التي تؤدي مباشرة إلى الأخذ بالنزعة العنصرية في تصنيف شعوب البشرية وتمييز بعضها من بعض، لا بالخصائص التاريخية الواقعية، بل بالخصائص الفطرية الطبيعية التي يزعمون أن الطبيعة اختصت بها بعض الشعوب بالخصائص العالية[...] في حين اختصت الطبيعة شعوباً أخرى بخصائص أدنى شأناً في سلم التطور الحضاري".
ما سمّاه مروة المنهج البرجوازي الغربي، هو ذاته ما فصّل فيه القول إدوارد سعيد تحت اسم النظرة الاستشراقية، وبمصطلح "النظرة الجوهرانية"، التي تُلصق بشعوب الشرق هوية ثابتة لا تتغيّر عبر العصور، وأرجع هذه النظرة، التي صنعت "شرقاً" خاصاً بأوروبا، إلى نزعة ادعاء المعرفة والسطوة التي مهدت لتمثيل الشرق والسيطرة عليه. وهو ذاته المنهج الذي وصفه الجوزي في مقدمة كتابه، ونسبه إلى مؤرخي الغرب من أمثال: نيبور ورانكة وشلوسر ورينان.. إلخ، في وضعهم لعلم التاريخ وأساليب النقد التاريخي. وعن هؤلاء يقول: "إذا عرفنا.. أنهم بنوا أحكامهم ونظرياتهم على تاريخ الغرب وحده، إذ أنهم لم يكونوا يعرفون من تاريخ الشرق إلا الشيء اليسير، سهل علينا أن ندرك مقدار ما في أقوال بعض مؤرخي الغرب عن الشرق وتاريخه من الغرابة والطيش" (انعدام المعرفة هو ما سيطلق عليه سعيد بعد ذلك "المعرفة النصية" التي قادت المستشرق إلى الحط من مكانة شعوب الشرق) ويضيف الجوزي "وهل هناك من طيش أكبر من أن يقول أحدهم إنه لم يكن للأمم الشرقية تاريخ، بمعنى هذه الكلمة المعروف بين علماء الغرب، وأن أساليب البحث التاريخي التي وضعها علماء الغرب لا يمكن أن تطبق على تاريخ الشرق" و"أي غرابة أو جهل أعظم من أن يقال إن العوامل المؤثرة في تاريخ الأمم الأوروبية والنواميس العمومية الفاعلة في حياتهم الاجتماعية هي غير العوامل والنواميس العاملة في تاريخ الأمم الشرقية وحياتهم وثقافتهم".
ثم يذكر أمثلة دالّة على الغرابة والطيش مثل أقوال شلوسر عن الفرق بين تاريخ الغرب وتاريخ الشرق، بحيث يكفي كما يرى معرفة دور صغير من حياة أي أمة شرقية، لكي يتصوّر المؤرخ حالها في كل أدوارها التاريخية مهما طال أمدها، ومهما طرأ على تلك الأمة من التغيرات الواقعية. والأشد غرابة "أقوال مؤرخ اشتهر بأبحاثه في تاريخ الشرق القديم وتاريخ بابل، يأتي بحجج لتأييد هذا الفكر العقيم، ومنها أن الشعوب الشرقية تعتقد أن ما يحدث في هذه الحياة الدنيا ليس إلا انعكاساً لما يحدث هناك في السماء، وأن حياة المجتمعات الإنسانية يجب أن تنظّم وتجري طبقاً لحركات الكواكب السماوية، أي أنه يقيم فرقاً بين نفسية الأمم الشرقية والأمم الغربية، فالشرقية لا تقول بمبدأ التطور والاستقراء اللذين هما أساس العلوم الحديثة، ولا تبنى أحكامها العامة على استنتاجات منطقية مرتبط بعضها ببعض، مؤسسة على فكر أو نظرية عامة سابقة لتلك المراقبات تتوقف عليها أعمالهم وأفكارهم".
لم يتوقف هؤلاء، كما يقول الجوزي، عند تاريخ الأمم الشرقية القديم، بل مضوا إلى تطبيق أحكامهم على تاريخ الإسلام في القرون الوسطى والحديثة، إلا أنه يلاحظ أن أكثر علماء الشرق المعروفين بترفعهم عن الأغراض القومية أو السياسية، هم على رأي غير رأي شلوسر وفنكلر ورينان، ويكتفي بتقديم شهادة بارتولد في كتابه "تاريخ الأبحاث عن الشرق في الغرب وفي روسيا" حيث يقول: "لو كان نظر الأمم الشرقية من البساطة على ما يتصوّره بعض مؤرخي الغرب، لكان البحث في تاريخ الشرق ومعرفته أسهل من معرفة تاريخ الغرب على المستشرقين الذين يدرسون في الغالب الأعصر المتأخرة من تاريخ الشرق". ويصل في النهاية إلى أن تاريخ الشرق وحياته الاجتماعية يخضع للقوانين نفسها التي تخضع لها حياة وتاريخ الأمم الغربية.
كان عنوان هذه المقدمة "وحدة النواميس الاجتماعية"، أي أن دفع الجوزي كان يقوم على وحدة القوانين التي تحكم المجتمعات البشرية، تأسيساً على منهجه الرائد في الثقافة العربية، المنهج المادي التاريخي، تلك الريادة التي قامت على سعة الإطلاع على مختلف شؤون الثقافة الإسلامية وشؤون المجتمع العربي الاقتصادية والسياسية والثقافية، وفهم عميق لدلالات النصوص الفقهية ومناخاتها الاقتصادية/ الاجتماعية / الدينية/ اللغوية، وعلى اطلاع على الكثير والمهم من ثقافات الشعوب واللغات الشرقية والغربية، واستيعاب لأساليب البحث المقارن.
انطلاقاً من هذه المقدمة يدرس الجوزي في كتابه أحوال المجتمع العربي/ الإسلامي عبر حركاته الفكرية والمناخات التي ولدت فيها وتفاعلت معها، بنظرة نقدية شاملة لجوانب وزوايا متعدّدة، منحازاً بصورة موضوعية للأفضل والأجمل في تاريخ هذا المجتمع.
وبفضل هذا المنهج، كما يتبين لنا الآن، استطاع هذا المفكر الفلسطيني قبل قرن تقريباً تحدي منهجين سائدين في زمنه، المنهج القائم على التقديس المطلق للتراث انطلاقاً من تقديس الماضي بوصفه ماضياً فقط، ومنهج جزء مهم من دراسة الغرب للشرق المصطلح عليه الآن باسم "الاستشراق"، ذاك الذي يقف موقفاً عدائياً من تراثنا، ويحاول تشويهه والانتقاص من المجتمع الذي أنتجه، و"اغتيال جوانبه الحضارية المتقدمة والمتطورة" على حد تعبير مروة.
________
إرث لم يصلنا يعد
ولد الجوزي في القدس عام 1871. حصل على بعثة كنسية للدراسة في روسيا القيصرية، ومنها انتقل إلى أكاديمية قازان ليحصل على ماجستير في الدراسات الإسلامية عام 1899. شغل عدة مناصب أكاديمية، وعين بعد الثورة الروسية أستاذا للآداب واللغة العربية في جامعة باكو، ثم أول عميد للغات الشرقية فيها. توفي في باكو عام 1942، وترك كتباً وترجمات عديدة، بينها 13 كتاباً باللغة الروسية، وجزء كبير من كتبه لم ينشر بعد.