في كثير من العواصم العربية، وليس في جميعها، تخلو الساحات والحدائق من التماثيل، وإن خاطر أحد الفنانين ونحت تمثالاً، فسيكون مصير منحوتته أن تظل سجينةً وراء أسوار بيته، أو أسوار أحد محبّي فنه، هذا إن لم يهاجمه شخص ما ويحطمه. الجمهور لا يرى أعماله النحتية، ولذا يمكن أن نطلق عليه تسمية "فنان بلا جمهور".
يحدث ما يماثل هذا في عالم الأدب، حين تضيق مساحات الحرية حول شاعر أو ناقد وروائي، أو أي كاتب من أي نوع، بمعنى أن يجري تغييبه عن قاعات المحاضرات وصحائف المطبوعات، فيتحول إلى سجين من نوع آخر... وراء أسوار أوراقه وكلماته، فيستحق عندها تسمية كاتب أو "شاعر بلا جمهور".
يحدث الأمر نفسه مع ما يُسمح بتداوله من أفكار وما يُمنع، فتغيب عوالم فكرية عن الوجود بالمعنى ذاته الذي غاب فيه الفنان النحات والكاتب الشاعر؛ فلا نجد بدّاً من ابتكار تسمية "أفكار بلا جمهور"، لوصف غياب أفكار معينة نعتبر التفكير فيها وتداولها أمراً حيوياً. قد لا نعرف ما هي هذه الأفكار بالتحديد، وربما لن نعرف أبداً، إلا أن غيابها يظل ماثلاً وسط عالم يضج بتسليات من كل نوع، ولكنه محروم من التفكير.
وينسحب عدم المعرفة هذا، سواء كان محتملاً أو يقينياً، على ما سبق؛ على فن النحت والكتابة على سبيل المثال. لن يعرف الجمهور أي منحوتات لم يُتَح له أن يراها، ولن يعرف أي شعر أو عمل روائي أو حتى نقدي جرى تغييبه عنه، ولن يعرف، وهذا هو الأكثر أهمية، أي وسائل تحرير للفكر والمخيلة فقد، حتى من دون أن يعرف أنه فقد شيئاً. وبهذا يصبح انعدام المعرفة مرجّحاً، وإلى الأبد، على وجه اليقين.
الغائب هنا في هذه الحالات الموصوفة وما يماثلها ليس الجمهور بالطبع، فهو حاضر دائماً، إما ككائنات آلية أو ككائنات بشرية مذهولة لا تعرف ماذا يُراد بها ومنها. الأسئلة الرائجة المعتادة هي على شاكلة: لماذا يُسجَن التمثال؟ لماذا يُمنع نشر أعمال كاتب أو يُحجب حضوره بمبرّرات شتى؟
لماذا تُحارَب هذه الفكرة أو تلك وتُنفى من هذا الوسط أو ذاك؟ ولا يلتفت أحد إلا نادراً إلى الجمهور ويسأل: شأنه في ذلك شأن النملة التي تلم بصغائر الأشياء دون عظائمها، فتتحرّك سرباً وراء سرب من مطلع النهار وحتى غياب الشمس؟ وما هو أثر هذا على سلوكه في الحاضر والمستقبل؟
بمعنى آخر، لا يتجه السؤال نحو مصير جمهور حُرم من الفنان والشاعر والكاتب والمفكر، وتُرك في العراء ليتداول ما لا ندري من أفكار، ويشاهد بصرياً ما لا ندري من أعمال، ويقرأ ما لا نعرف من صحائف وكتب، أي لا أحد تقريباً يتساءل عن حق للجمهور ضائع أو مستلب، لا أحد يحاول أن يتعرّف على البضاعة الفنية والأدبية والفكرية الرائجة في أسواق هذا الجمهور، ويحلل مفاعيلها، حتى وإن كان هذا التعرف هدفه وضع برامج تنمية ثقافية وفنية، مثلما يجري عادة في عالم التصنيع حين يحرص منظّمو الأعمال على معرفة الرائج من بضائع وهم في سبيلهم لإنتاج ما هو أفضل وأكثر ربحية.
ما نشاهده ونقرأه هو تركيز الساعين إلى التغيير والطامحين إلى إحداث انتقالات اجتماعية/ فكرية/ اقتصادية/ سياسية على حقوق الفنان والشاعر والكاتب والباحث والسياسي، سواء كانوا فرادى أو جماعات، المنتهكة والمأكولة، والمطالبة بها سراً أو علناً أحياناً، أو الانتفاض من أجلها كما يحدث في الكثير من الأماكن والأزمنة، وأيضاً من دون الالتفات إلى حقوق الجمهور في الرؤية والمعرفة والوعي. وستكون لهذا الإغفال تبعاته.
أولى هذه التبعات تظهر حين تفشل مطامح الساعين إلى التغيير وإحداث انتقالات جزئية أو كلية في مجتمعاتهم، وتحبط، فتنصب اللعنات على الجمهور، فهو تارة لم يرتفع إلى مستوى "المُثل" التي حملها الطامحون، وهو تارة "متخلف" أسير المذهبية أو القبلية أو عوالم الخرافة، أو هو في أغلب الأحيان جمهور لا يستحق أن يضحي أحد من أجله بساعة من وقته الثمين.
وتظهر آخر هذه التبعات في ثبات رؤية ساكنة يظهر فيها الوجود مثل بركة راكدة، لا تصب فيها روافد ولا تخرج منها جداول، ولا تبدأ هذه الرؤية بالسيطرة على عوالم النظر والفكر فقط، بل وتلغي حضورها. ولا ينقص ثقافة، لم تصل بعد إلى أن للجمهور حقوقاً تتعلق بالنظر والقراءة والمعرفة، موهبة اختراع حجج من هذا النوع أو ذاك.
يعلّق الكثير من الساعين إلى التغيير والانتقال بالبنى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية إلى أوضاع متقدمة، نجاح مشروع التغيير والانتقال، على تمكّنهم من القبض على الساحات ووسائل نشر الفن والثقافة والأدب والفكر، وليس على السعي إلى تمكين الجمهور من حقه في أن يرى في الساحة التماثيل السجينة، ويقرأ الكتب الحبيسة في الأدراج، ويرى الكاتب والشاعر والناقد وكل معني بالثقافة في هذه القاعة أو تلك، وأن يفكر بهذه الفكرة أو تلك. أي تمكين الجمهور من أن يكون مادة وأداة التغيير أولاً وأخيراً، لا موضع تغيير لاحق لن يتحقق.