قد لا يفوت متابع الإصدارات الأدبية، في أوروبا خصوصاً، أن أدب الرعب لم يعد مهمّشاً كما كان، بل أصبح يجد مكانه ضمن أشهر سلاسل الأدب وأبرز دور النشر. مؤخراً أصدرت دار النشر الفرنسية "غاليمار" أحد أشهر قصص الرعب؛ "دراكولا" مع مجموعة من القصص الأخرى في مجلد وضمته إلى سلسلة "بلياد" المخصّصة لـ"الأعمال الأدبية الخالدة"، كما نشرت "بنغوين" البريطانية الكتاب عدة مرات كان آخرها الشهر الماضي بالتزامن مع النسخة الفرنسية، وهي التي نشرت "فرانكشتاين" العام الماضي.
هذه الأعمال التي يجمعها احتفاء الناشرين اليوم كانت وليدة اللحظة التاريخية ذاتها، والتي عرفت بـ"ليلة الأشباح". في عام 1815، انفجر بركان تامبورا في إندونيسيا، ويعد إلى اليوم أكبر انفجار عرفته الأرض خلال عشرة آلاف سنة بحسب تقديرات الجيولوجيين، وقد راح ضحيّته قرابة 11 ألف إنسان.
ظلت كارثة البركان مخيمة على الأرض في العام التالي، وأصبحت سنة 1816 تُعرف بـ "السنة التي لم تعرف الصيف"، ليس فقط في آسيا بل وفي أوروبا فقد صعد الرماد البركاني إلى طبقات الجو العليا وباتت الشمس غامضة في حضورها وغيابها لأشهر، واختفى فصل الصيف وهطلت الأمطار بلا توقف، وكانت السماء كئيبة فعلاً وليس على سبيل المجاز فحسب، وانتشرت أخبار عن نهاية العالم الوشيكة، وكتب اللورد بايرون قصيدته "الظلام" التي وصفت وقتها بأنها "قيامية"، وينظر إليها حماة البيئة اليوم بوصفها أول قصيدة عن التغير المناخي. يقول: "رأيتُ حلماً لم يكن حلماً، كانت الشمس تنطفئ، والنجوم تهيم مظلمة في الفضاء الأبدي، بلا بريق ولا مسار، الأرض الجليدية تأرجحت عمياء مسودة في سماء بلا قمر، وجاء الصباح وذهب دون أن يجلب معه النهار، ونسي الرجال الشغف...".
في تلك السنة المعتمة، دعا اللورد بايرون طبيبه جون ويليام بوليدوري، وصديقته المفضلة ماري شيلي والشاعر بيرسي شيلي الذي سيصبح زوجها لاحقاً. خلال تلك الرحلة التي استغرقت ستة أسابيع في أوروبا قبل الوصول إلى فيلا ديوداتي الواقعة على بحيرة جنيف، كانت ماري تكتب يومياتها، مما جاء فيها: "لم أر منظراً مقفراً على نحو بشع مثل هذا، الأشجار على الطريق كانت ضخمة جداً، تقف في جماعات متناثرة على البراري الكبيرة البيضاء. لم يشتت هذا المساحات الممتدة من الثلج والصقيع سوى منظر أشجار الصنوبر العملاقة وبعض الأوتاد التي ثبتت على جانبي الطريق، لا نهر يريح العين، ولا صخرة تسلقها العشب تضيف بعض الرقة لهذا المنظر".
كان ما يحدث للطبيعة بالنسبة إلى الأوروبيين غامضاً، فذلك الشق من العالم غالباً لم يكن يعرف الكثير عن بركان تامبورا، فكانت التفسيرات والتأويلات غالباً ما تحيل الأمر إلى قوى خفية أو إلى العالم الآخر، أو إلى أن كوكب الأرض نفسه يحتضر، مثلما يظهر في قصيدة بايرون. في هذه الطبيعة المخيفة كتبت ماري شيلي قصة فرانكشتاين التي تبدأ قصتها وتنتهي في الثلج والظلام وفي منزل بالقرب من بحيرة جنيف، وفيها أيضاً كتب بوليدوري (طبيب بايرون) قصة دراكولا، وكان للشاعر الإنكليزي فضل على الاثنين في كتابة القصتين.
على طاولة تلك السهرة أيضاً، وضع بوليدوري قصة "مصاص الدماء"، واعتبر النقاد أنه كان يقصد اللورد بايرون نفسه؛ ذلك الأرستقراطي مجنون القلب والتواق إلى كل شيء على نحو مندفع؛ والذي وصف نفسه في رسائل لزوجته بالجائع الأبدي وأنه الفراغ التواق لما يملؤه. لاحقاً، سينتحر بوليدوري وهو في السادسة والعشرين وقد ترك مذكراته وفيها يكشف حجم الإذلال الذي كان يعانيه على يد بايرون.
مرت عقود، حين نشر الكاتب الأيرلندي برام ستوكر رواية "دراكولا" عام 1879 التي استلهمها من عمل بوليدوري. وهو عمل انقسم النقاد ومؤرخو الأدب على تفسيره وتأويله فمنهم من اعتبر أنه مستلهم أيضاً من سيرة أحد الأباطرة المتعطشين للسلطة والعنف والذي كان معروفاً في القرن الخامس عشر وقد قيل بأنه كان يغمّس الخبز بالدم، وثمة من قرأ فيها القصة الأبدية بين الشيطان والإنسان، وهناك من اعتبر أنها قصة تحمل تأويلات للعلاقات بين البشر والعنف فيها على صعيد العائلة والجنس والحب والعداء، وقد تكون "دراكولا" كل ذلك، وربما لذلك كانت ملهمة إلى هذا الحد، وولدت منها مئات القصص والكتب والأفلام السينمائية، وصولاً إلى أخذ مكان في مكتبة "بلياد".