يرفض عالم الاجتماع والمحلل النفسي الألماني مارتين دورنس الربط بين التطوّرات التي عرفتها المجتمعات المعاصرة وتنامي الأمراض النفسية.
إننا نلحظ هذا الربط دائماً في النقد الاجتماعي، الذي حمّل التحوّل عن نظام دولة الرفاه الكينزية إلى رأسمالية نيوليبرالية منذ بداية الثمانينيات المسؤولية عن تزايد الأمراض النفسية داخل المجتمعات الغربية، وخصوصاً بسبب انتشار قيم المنافسة وتنامي التفاوت الاجتماعي وسرعة الإيقاع التي أضحت تحكم الحياة اليومية.
يرى دورنس أن صيرورة التحديث والتحوّلات الاجتماعية وما رافقها من تغييرات لم تؤثر سلباً على الصحة النفسية للمواطنين في المجتمعات الغربية، معتبراً أن مؤشرات كثيرة تؤكد ذلك ومعتمداً في طرحه على العديد من الإحصائيات.
إنه يرى أوّلاً أن العلاقة بين الاجتماعي والأمراض النفسية ليست بتلك القوة كما يعتقد علماء الاجتماع، ينضاف إلى ذلك أن مشروع التحديث لا يتوجّب النظر إليه كخطر على لحمة المجتمع وصحته النفسية، بل كثيراً ما يساعد على الاندماج المجتمعي، ويساهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي. ويلخص كل ذلك بالقول: كلّما زاد المجتمع حداثة، كلّما تمتّع الناس بصحة وسعادة أكبر.
يقول الكاتب الألماني مارتين كيسل: "إن الإحصائيات هي خرافة العقل". ولا تصدُق هذه الجملة على عمل كما تصدق على كتاب دورنس الأخير "هل تتسبّب الرأسمالية في الاكتئاب؟" (2016) الذي يزخر بمختلف أنواع الإحصائيات التي يسوقها الكاتب من أجل سحب البساط من تحت النقد الاجتماعي في ألمانيا، كما نعرفه خصوصاً من كتابات عالم الاجتماع فولفغانغ شتريك.
يرى دورنس أن شتريك وغيره يعيشون نوعاً من النوستالجيا المزيفة إلى رأسمالية ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكي يؤكد على ذلك، يعتبر أن المجتمعات التقليدية مثل المجتمعات المسلمة أكثر تعرضاً للأمراض النفسية من اكتئاب وخلل وظيفي في المجال الجنسي وعنف أسري، مقارنة بالمجتمعات الحديثة، وهو يغفل هنا، أن ما يحدث في المجتمعات الإسلامية، يرتبط صميماً بما ينتجه الغرب وما يسوق له في تلك المجتمعات، بل إنه يزيد على ذلك ويؤكد بأن المجتمعات الغربية أكثر استعداداً لتقديم المساعدة من مثيلتها التقليدية، وأكثر ضيافة واحتفاء بالغريب.
يبدو بأن لدورنس مفهوماً رومانسياً عن العمل، ومن يقرأ مديحه للعمل في المجتمعات الحديثة، يدرك أن الرجل ينظر إلى الواقع من وراء زجاج مكتبه.
ولهذا فإن ما كتبه الفيلسوف بيونغ شول هان في نقد المجتمع الرأسمالي لم يكن مبالغاً فيه حتى وإن كان لا يقوم (كما ينتقد دورنس) على بحث تجريبي، وهو يتحدث عن انتقالنا إلى "مجتمع الانضباط" الذي يفرض علينا بذل جهود كبيرة ويربطنا بقيم الإنتاج، إلى درجة يتحوّل ذلك إلى نوع من التماهي بالمتسلّط، لكنه تسلّط يقوم على ميكانيزمات الإثارة والإغراء، ويدفع العاملين إلى استبطانه واعتباره طريقة الحياة المثلى والممكنة.
لا يكتفي دورنس بالدفاع عن النيوليبرالية، بل إنه يعتبر أن للعولمة تأثيراً إيجابياً على مستوى العالم وأنها ساهمت في تقليص مستويات الفقر وفرض احترام حقوق الانسان وحقوق الأقليات وحقوق المرأة لكنه لا يكلّف نفسه الحديث عن الحروب المحتدمة في العالم بسبب سباق المصالح الرأسمالي ولا إلى الهجرة جنوب ـ شمال، وإلى التغيرات البيئية الخطيرة.
ويظهر للقارئ أنه يعتمد إحصائيات دون أخرى، فحتى إذا كانت الصحة النفسية للمواطن الألماني أو الغربي عموماً لم تتأثر كثيراً بالنظام النيوليبرالي، لأنه ينتمي بالضرورة إلى تلك البلدان التي تستفيد من هذا النظام، فإن ذلك لن يستطيع أن يخفي عملية تسطيح الوعي التي يتعرّض لها الانسان الغربي اليوم، والتي تأكدت غير ما مرة في السنوات الأخيرة، في ظل الشعبية الكبيرة التي تتمتع بها الأحزاب اليمينية المتطرفة. إن المرونة التي يحتفي بها دورنس، لا تعني إلا مزيداً من الخضوع.