حكاية انطلقت أحداثُها، وهي من صميم الخيال وسِحر الكلام، في عيد "المايّو"، الذي يصادف الرابعَ عشرَ من شهر أيار حيث يتقابل تقويمٌ فلاحي لدى مزارعي النخيل بذكرى وطنيّة لدى المستعمِر الفرنسي الذي كان حينَها جاثماً على ثروات الشعب التونسي وحقوله ومَناجمه. في ذلك التاريخ، كان عمر "العطراء"، إحدى الشخوص الرئيسة، ثماني سنوات. وتوالت بعدها الوقائع تُساير قيضَ الصيف ورطوبة الخريف ومنه برد الشتاء وتهلل الربيع، دائرةً مع الفصول. وفي نهاية القصّ، تبلغ العطراء ثمانيةً وعشرين عاماً، فيكون الامتدادُ الزمني لعَقديْن.
وإليها يضاف زمن تقريبيٌّ، أومأ إليه الراوي بقوله: "وبعد أشهر" من عودة العطراء من صفاقس حيث كانت تتداوى وحيث أقام الحفناوي وتزوّج بامرأة ثانية أنجبت له ولداً. ثم ما لبثت العطراء أن مرضت وتوفيت بعد سنة. وهكذا يُقدّر الزمن الحَدثي في الرواية بواحد وعشرين عاماً، بما فيه من ثغرات وتعرّجات رجوعاً إلى الماضي أو استشرافاً للمستقبل.
الإشارة التاريخية الوحيدة التي أرسلها الراوي هي إضراب العمال التونسيين في منجم الفسفاط بمدينة المتلوي سنة 1928، مما يقوّي وهم القارئ بأنّ وقائع التاريخ المباطنة للرواية جرت ما بين الحربيْن العالميتيْن حيث شهدت تونس، كسائر المستعمَرات، أعنف هزّات التحوّل السياسي والاجتماعي، بعد أن توغّل النموذج الفرنسي في النسيج التقليدي واستباحَ ثرواته، ففغرت الأرض فاها على المجهول.
تعالج هذه الرواية التي سُبكت سنة 1968، أحداثاً تاريخية ماضية على زمن الكتابة تلاعباً بخطيّة التاريخ وتفتيتاً لصلابة تقدّمه. فكانت تزاوج بين آليتَيْ الاسترجاع والاستشراف للواقع الاجتماعي التونسي، مع التركيز على فَترة اختزنت في أحشائها بذرات الانتقال الدرامي من النمط الإقطاعي-الأبوي إلى النمط الليبرالي، ومن سيطرة القيم الدينية، التي تجسّدها شخصية الإمام، إلى شيوع التسيّب، يأساً أو مجوناً، وهو تحوّل تلخصه آخر جملة في الرواية: "وعندما سكتَ آخرُ سكِّير وطلع المؤذّن يَتَهَجد، ماتت".
من جهة التوزيع المكاني، تنتشر الوقائع، وهي من صنائع الابتكار، على بساط جغرافي مَعلوم: "بلاد الجريد". اسمٌ شاع في كتب الرحلة وسجلات الإدارة إشارةً إلى منطقة الجنوب الغربي لتونس، وإيحاءً إلى ما يميزها من استقلالية، فهي بلادٌ في بلاد. واشتهارها بزراعة النخيل، وهو فَخارُها، ودَمارُها حين تجفّ السماء أو تفيض أمطارُها. تنتقل الشخوص من نَفطة، مدينة المَكي والعطراء، نحو المتلوي (80 كيلومتراً شمالاً)، وبجوارها قرية فليب طوما حيث مصنع الفسفاط، ثم إلى السجن وصفاقس. وفي نهاية المطاف، يعودون إلى نقطة البداية: نفطة. وهذا أيضاً من عبث الرقم على المسافات والإشارة إلى الفضاءات خلطاً بين امتدادها في الجغرافيا وإيحائها بالدلالات.
عجبٌ تركيبةُ النص ولـمْحة ابتكارٍ. مستوحاةٌ، بعفو البديهة، من صورة أقناء النخلة وأعْذاقِها حين تتداخل. تشكلت أجزاؤُه من ثلاثة فصولٍ سمّاها المؤلف "عراجين"، ولها أسنَد أسماء شخوصه: ديجة، المكي والعطراء... وفي كل عُرجون عددٌ من الشماريخ، هي منه بمثابة الفصول الفرعية، وفي الحياة مَراحل وسنون. ولا يُعرف في تقسيم الروايات الحديثة ما يشبه هذا الترتيب، رمزاً للنخلة التي تتدلى منها الأعذاق والشماريخ محملة بأطايب الرُّطَب والتمور.
قُرئت هذه الرواية في عصرها وبعده قراءة واقعية. وصُنّفت في خانة النقد الاجتماعي لتونس الرازحة تحت نير الاستعمار. ولكنها، عند تجويد النظر، تلاعب كبير بحقول الكلام وفنٌّ أصيل من صادق الكَذب.
كذبٌ يراوغ بخطابه "موسوعةً" يَستدعيها، ليس بالمعنى الاصطلاحي الذي صاغه عالم السيميولوجيا أومبرتو إيكو بما هي مجموعة من العناصر في ذهن القارئ تتيح له فتح مسالك تأويلية في النص، بل بالمعنى المعجمي للموسوعة كدائرة معارف وجداول كلمات تحيل إلى أشياء ضمن إطار مرجعي بعينه. تضمّن أثرُ البشير خريّف كلّ المعارف الطبيعيّة والثقافية والفلاحية الخاصة بسكان هذه المنطقة، ومنها تسمية المواسم والآلات وأنواع التمور والآفات.
فإن بَحثنا عن نظير لها، في الأدب الأجنبي، سنقابلها برواية "موبي ديك" للكاتب الأميركي هرمان ملفيل الذي اشتغل على عالم صيادي الحيتان وأورد في نصّه مصطلحاتهم بما تتضمّنه من تفاصيل التفاصيل، حتى قيل إنّ قراءة روايته تغني عن موسوعة في علم البحار. وقياساً عليه، يمكن القول إن "الدقلة في عراجينها" تغني عن قراءة موسوعة في زراعة النخيل.
على مستوى آخر، يُشبه نص "الدقلة" بحثاً اثنوغرافياً، فهو يتغلغل في تفاصيل المعيش اليومي ونظام الحياة في هذه المنطقة، وكأنّ المؤلف أوفى بـ"شرط نجاح" البحث الإثنوغرافي، كما حدّده الأنثروبولوجي الفرنسي مارك أوجيه، وهو أن يتحوّل الباحث إلى جزء من نسيج المكان الذي يدرسه. ومن آيات ذلك أنّ خريّف قد جعل سجلات القول مزجاً بديعاً بين الفصحى والعامية، مزجاً اتخذه فرسَ رهانٍ، أوهم من خلاله بواقعية الحبكة وصدقية الحوارات.
لكن خريّف وجد نفسه تبعاً لذلك هدفاً لسهام المنتقدين التي طاولته منذ أن أصدر روايته الأولى "حُبّك درباني" (1959). لقد تأكدت التهمة حين جاء نصّ "الدقلة" هذا جريئاً في التلاعب بين السجليْن، بما لم تألفه الذائقة الأدبية، رغم براعة الكاتب في هذا وتألقه في ذاك: فَالمقاطع الفصيحة تنساب في سلاسة أثيلة، فيها من عَبق النثر الكلاسيكي، ومعدنه "الأغاني" و"العقد الفريد"، ومن الرومنسية المحدثة صورُ طبيعةٍ خلاّبةٍ ووجدان سانحٍ. وأما الحوارات فَجرت كلها بلهجة الجنوب الصادقة بخصائصها الصوتية، حتى أنه يمكن عدُّ هذا الكتاب أشمل "مُدوّنة"، بالمعنى الألسني الدقيق لما يسمى بالفرنسية: sociolecte أو النظام اللغوي الخاص بمجموعة ما، تنتمي إلى نفس المنطقة أو المهنة أو الفترة. أورد خريّف كل الاستعمالات المُعتقة والمبتذلة التي تميّز بلاد الجريد وقيَّدها طوراً من أطوار الضاد في تجوالها عبر العصور والدروب.
وكان ثمن هذه المغامرة الأدبية الجريئة أن تحوّلت "الدقلة في عراجينها" إلى أثر مرهِق بما اكتنزه من إحالات ومرجعياتٍ. تكاد كلُّ جملة فيه تستدعي جزءاً من ذاك العالم الفلاحي الصحرواي، بضراوته وفكاهته، فلا تفتح أذرعها طائعة لقارئ مَدني تعوّد بسيط الكلام. ومن جهة أخرى، كانت متأصلة في زمنها بما يعيق تقبّل قارئ حديث لها، وهو بطبعه سؤوم.
لكن لهذا القارئ أن ينظر للعمل كشهادة تاريخية تكشف فظاعة الاستعمار الفرنسي وهو يفرض نموذجه الاجتماعي والاقتصادي، ليس على الناس فقط بل على الأرض أيضاً، محوّلاً هويتها الجيولوجية من زراعة النخيل إلى استخراج الفسفاط. وله أن يقرأه وفي الذهن مطالبات التونسيين، في أيامنا هذه، بتجديد النظر في عقود استغلال هذه المناجم وربما إلغائها، بعد أن فَعلت ما فعلت بالطبيعة والناس.