مفهوم "تفاهة الشر" بقي منذ ستينيات القرن الماضي إلى أيامنا هذه، مستعملاً فقط في تفسير حالات فردية، لكن هل يمكن تعميمه على ما هو أشمل: تفاهة مجتمعات بأسرها ودول وجماعات؟ تلك هي الفكرة التي تخترق كتاب "الانحراف الشمولي" (منشورات كيمي في باريس، 2017) للباحثتين؛ الفرنسية مارتين ليبوفيشي والبلجيكية آن ماري روفيلو، وكلتاهما متخصّصة في فكر آرنت، وهو ما يفسّر ربما تقيّد العمل بشكل كبير بنصوصها.
ينطلق الكتاب من توثيق لحملة طاولت صاحبة "أزمة الثقافة"، وفيها اعتبر مهاجموها أنها تسرّعت في أحكامها التي أطلقتها بناء على صورة أيشمان في قفص الاتهام، وليس بناء على مجمل أفعاله. ترى المؤلفتان أن هذه الحملة كانت في نهاية المطاف تريد أن تتهم آرنت بـ"التفاهة"، وبشكل عام جرت محاولة إخماد الجذوة النقدية التي يحملها مصطلح "تفاهة الشر" من خلال تتفيهه.
تلاحظ المؤلفتان أنه ثمة "حالة من غياب الفكر" كانت ماثلة في معظم ما يحيط بالقضية، فـ"تفاهة الشر" ليست مرتبطة بخصائص سيكولوجية لدى أيشمان، بل إن الأخير أحد مخرجات نظام بأسره. من هنا تبدأ عملية تعميم فكرة "تفاهة الشر"، والتي تصل بها المؤلفتان إلى هيئة الحكم التي بدت هي الأخرى تنفيذية، أي تبلغ نفس النقطة: التفاهة.
هنا تربط ليبوفيشي وروفيلو مع مفهوم أساسي آخر من مفاهيم حنة آرنت، وهو الدولة الشمولية (التوتاليتارية في عدة ترجمات)، وهذا النموذج هو مصدر الانحراف الذي تعبّر عنه المؤلفتان بالقول "رجال طيبون يقترفون أشنع الأفعال"، باعتبار أن ما يجعل الشر لا يبدو كذلك، وجودُ جهاز تبريري هو من خصائص الدول الشمولية، التي تعمد إلى تعميم التفاهة من أجل خنق الحريات في المجتمع وبالتالي تحقيق المزيد من السيطرة.
بعيداً عن التقيّد بمفاهيم حنة آرنت وحكاياتها مع منتقديها، تبدو الرغبة في نشر "تفاهة الشر" كامنة في كل خطاب سلطوي، إذ أن هذه "الخاصية" تبدو ضرورية من أجل توفير طبقة من المنفّذين "يقترفون أشنع الأفعال" مع شعور دائم بأنهم "طيبون"، وطيبتهم تلك تساعد في إعادة إنتاج "النظام".