يوصف الرجل بأنه في نفس الوقت معادٍ للحداثة وبأنه محافظ، فبحسبه يتوجّب أن نحافظ على هذا "الشيء الجميل والثمين" والذي تمثله فرنسا برأيه، والتي يعتبرها "وطناً نسوياً ووطناً أدبياً"، والتي تعيش اليوم تحت "تهديد" التعدّد الثقافي وثقافة الجمهور والعولمة.
إنه آلان فينكلكروت (1949)، الكاتب الفرنسي الشهير، الذي يتحدّث عن فرنسا مثلما يفعل الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، ولم يتورّع عن الدفاع عما يسميه بالهوية الوطنية أو الهوية الفرنسية، وذلك في سياق ثقافي عرف التفكيكية والبنيوية، ومن قبلهما النقد الماركسي والوجودية.
هل يتعلق الأمر بسخرية التاريخ؟ إذ كيف يمكن للفكر أن ينحطّ إلى هذه الهوة العميقة بعد كل الفتوحات الكبرى التي أثرث بسياقات ثقافية كبرى، داخل أوروبا وخارجها؟ وهو سؤال يطرح نفسه في أكثر من سياق ثقافي وتاريخي. فقد نتساءل داخل السياق العربي مثلاً، كيف انتقلنا من الشيخ محمد عبده وروّاد النهضة إلى داعش؟ أو داخل السياق الألماني من أدورنو و"التربية بعد آوشفيتز" إلى سلوتردايك وتحريضه على المسلمين؟ وقل الأمر نفسه عن السياق الأميركي الذي لن نعدم فيه مثقفين دافعوا عن الغزو الأميركي للعراق.
هل نعيش اليوم نهاية المثقف؟ ليس هذا هو السؤال الذي يتوجّب طرحه. قبل ذلك، ربما، علينا التساؤل عن الدور الذي يتوجّب اليوم على المثقف لعبه. فليس المثقف رهين دور بعينه، صالح لكل زمان ومكان، بل الأمر يرتبط دائماً بسياق معيّن. وحين يجنح هذا المفكر أو ذاك إلى الحديث عن هوية جمعية أو وطنية أو دينية، فإنه ينتقل من التفكير إلى الأيديولوجيا والأدلجة، ويساهم في تزييف السؤال ومعه الأجوبة الممكنة عنه.
وهذا لا ريب ما يفعله الثقافويون الغربيون اليوم، وهم يغيّبون المجتمع لصالح الجمعي، والفرد لصالح الهوية، وهم يتكلمون لغة السلطة، حتى وهم يؤكدون مثلاً أن "حق الاختلاف الذي هو عزيز عليكم ليس بحرية إلا إذا كان مرفقاً بحق أن نكون مختلفين عن اختلافنا.
وفي الحالة المعاكسة فإن ذلك سيكون فخاً، بل عبودية". فوراء هذا البيان الجميل الذي كان من بين موقّعيه آلان فينكلكروت وريجيس دوبريه، نعدم أمراً أساسياً وهو أن الحق في الاختلاف عن الاختلاف لا يعني في نهاية المطاف بالنسبة لصقور الهوية الوطنية سوى التماهي بالثقافة السائدة، أو بتلك الهوية الوطنية المتخيّلة لفرنسا، التي ينافح عنها فينكلكروت في كتاب "الهوية الحزينة" (2013).
ولهذا يتوجّب أن نفهم وقوف أمثاله ضد ارتداء الحجاب أو البرقع، ومهما يكن موقفنا من اختزال الإسلام في هذه المظاهر الخارجية، كموقف ضد الحرية وضد الحق في الاختلاف.
إنه موقف يطلب الوحدة، لأنه عبر الوحدة فقط تتحقق له السيطرة، ويظل الآخر، المختلف، مطالباً وبشكل يومي بالتماهي بالسلطة، وبلغة أخرى، مجرّداً من حريته، بل أكثر من ذلك يمكننا أن نمضي أبعد ونوضّح بأن شكل التديّن في أوساط المهاجرين، وبلغة أخرى في أوساط مهمشة، لا يمكنه أن يكون إلا انعكاساً لهذا التهميش أكثر منه لمبادئ دينية، وبلغة أخرى، إن البرقع والحجاب والسلوكيات أو المظاهر التي يحكم عليها "المتحضرون" أمثال فينكلكروت بأنها غير حضارية، هي نتاج للغرب نفسه ولتاريخ طويل من العنصرية كما أوضحت ذلك مثلا المؤرخة الأميركية، جوان ولاش سكوت، في كتابها "سياسات الحجاب".
لكن منطق الهوية لا يؤمن بالدياليكتيك، وغير قادر على تجاوز نفسه أو مراجعة أفكاره وخياراته. فهو كما أوضح فينكلكروت نفسه، في كتابه سابق الذكر، انطلاقاً من إدموند بوركه وكتابه "أفكار حول الثورة الفرنسية"، يقوم على الانتماء والوفاء والتجذر في خصوصية قومية معينة، بل إنه مع موريس باريس لن يتورع عن التأكيد بأنه يريد أن يدافع قبل كل شيء عن "مقبرته"، وبلغة أخرى عن سلالته، ولا ريب في أن الطريق الفاصل بين مقبرة موريس باريس والمقابر الجماعية ليست بالطويلة!
إن الثقافويين أمثال فينكلكروت يصمّون آذانهم أمام الأبحاث الاجتماعية الميدانية، معتبرين أن أحداث العنف التي تعرفها مناطق المهاجرين لها علاقة بثقافتهم وبإقصائهم للأنثوي، لتلك الأنثى التي تريد الجمهورية أن تعريها من ملابسها.
وبلغة أخرى، إن أمثال فينكلكروت، ويمكن اعتبارهم نموذجاً للمثقّف الكلاسيكي ضيق الأفق، هي فصيلة كان يتوجب عليها أن تنقرض منذ زمن، أو أن تكتفي بممارسة الصحافة فقط، لأنها، في استهزاءها بالسوسيولوجيا، تؤكد فقط غربتها عن الواقع التي تعتقد أنها خير من يفهمه، بل وتبعث أحياناً على الشفقة وهي تفضل أن تستشهد بما تكتبه آيان حيرسي علي عن الإسلام والمسلمين، كما يفعل فينكلكروت.
وفي الواقع، فإنه لا يمكننا أمام مثقف مثله إلا أن نشعر بالدهشة، فكاتب "الهوية الحزينة" هو نفسه صاحب كتاب "حكمة الحب"، والذي يعتبر من أفضل الإصدارات في السياق الفرنسي حول فيلسوف الغيرية، إمانويل ليفيناس، والذي ما برح يؤكد بأن الآخر أصل المعنى ومآله، وأن حريتي تتحقق كمسؤولية غير مشروطة تجاه الآخرين.
سيتهم فينكلكروت المثقفين الذين يعمدون إلى تفكيك الهوية الوطنية، بأنهم يعانون من الأيكوفوبيا Oikophobie أو الحقد على البيت الأصلي، سيهاجم التسامح الأنغلوساكسوني وعلمانيته الليبرالية منافحاً عن العلمانية الجمهورية، والتي هي في نهاية المطاف خطر على العلمانية نفسها، باعتبار أنها تربطها بطريقة حياة وتاريخ قومي محدد.
نفهم بالنظر إلى هذه المواقف الرجعية التي عبر عنها فينكلكروت في "الهوية الحزينة" وغيرها، ردة الفعل القوية التي صدرت عن المفكر اليساري آلان باديو، في رسالته المفتوحة إليه، والتي أكد فيها أنه كثيراً ما حذّر فينكلكروت خلال اللقاءات التي جمعتهما من الانجراف باتجاه اليمين المتطرّف. لكنه للأسف سيقوم بهذه الخطوة عبر كتابه "الهوية الحزينة"، يقول باديو، وعبر تحوّل "المفهوم النيونازي عن الدولة الإثنية" إلى مفهوم أساسي في تفكيره.
ويرى باديو أيضاً أن فينكلكروت عجز "عن مواجهة الكونية المجردة والمقرفة للسوق الرأسمالية العالمية بشيء آخر غير التقديس، الذي يصبح قاتلاً كلما ادعى قيمة سياسية أيا كانت، للهويات القومية"، وطبعاً في حالة فينكلكروت، فالأمر يتعلق بهوية إثنية، كما يكتب باديو. فأمثال فينكلكروت، وهم اليوم كثر في أكثر من سياق أوروبي، يتخذون موقفاً رجعياً من الرأسمالية المعولمة، وهم يؤكدون أن المشكلة السياسية المركزية تكمن في سؤال الهوية الفرنسية، رغم أنه لا أحد يعرف ما الذي يتوجّب أن تكون عليه هذه الهوية.
نقف إذن في السياق الفرنسي أمام وجهين للمثقف، وجه لم يتخلّص بعد من أشباح الماضي ومن فرنسا الضاربة بجذورها في القدم، وآخر يرى مع باديو وجان لوك نانسي وآلان رونو وآخرين غيرهم، وإن كان عددهم يتناقص بمرور السنين، أن لعبة الهوية وصراع الحضارات، لعبة خطيرة وقذرة، وأنها تخطئ الطريق إلى الأسباب التي تقف خلف المشاكل الاجتماعية، وتهتم بالأعراض أو ترتفع بها إلى مستوى المشروع.