يسود الآن في القرية صمت القبور، تغذّوا وناموا. لا يمكن في الواحات في الصيف إلا أن تستسلم لسبات ما قبل العصر. لكني لا أحب النوم لا في الليل ولا في النهار، أتسكّع في البساتين أو في المزرعة إذاً.
عند زقاق الخلوة، وقد سُمي كذلك لأن الجد الصالح كان يتعبّد به لما يصلي الظهر في الكعبة وينتظر صلاة العصر في مسجد الواحة، لقيت كلب العشيرة ومسحت على ظهره ومر. راديو يئن "وحياتي عندك". ترك في نفسي حنيناً لشيء ما لم أتبيّنه. لأجل هذه المشاعر لا أحب أن أنام خاصة وأني في هذا الحشد الكبير من الناس أشعر بأن جلهم يمشون وهم نيام. هؤلاء كنت أتقاطع معهم في الطريق وكأنهم بعض من النخيل أو الزيتون، هم طيبون لكنْ تائهون بين السواقي والحرث والكد.
لا شيء يتراءى من الأزقة، فقط الذهن يشتغل، تذكرت المنزل الخراب حيث نلتقي ونأكل بعض الفواكه، وانجذبت كما تنجذب الفراشات نحو النور لتقضي.
من شقوق الحيطان نصف المهدمة تتسرّب رائحة بخور قوية يمكن أن تفتك بقلب عليل. عرفتُ تواً أنها هي، الساحرة، تعدّ وصفة الكلب لأحدهم. اختبأت وراء الباب الخلفي أترصّد المرأة السوداء القوية تشتغل. كانت تضيف مواد ما في قدر أسود، كانت تفعل ذلك لفترة ثم ترقص لفترة تحت إيقاع ثلاثي؛ متوسط مسترسل، وقوي صاعد، وضعيف بين الاثنين، كان بوب مارلي يغني أغنية أعرفها، تمزج بين الحاجة البدنية والروحية، بين الحس والعاطفة.
- الألحان كلها مأخوذة من حركات العناصر، الماء والريح والنار والتراب. والإيقاع مهما تعقد، رباعياً يبدأ وينتهي ويمر بالصعود ثم النزول، قد يلتوي، وقد يميل يمنة أو يسرة، وقد يسرع وقد يبطئ، لكنه لا يتيه أبداً، هناك عقل يقود الإيقاعات كما يقود الله العناصر. قالت لي الساحرة.
- والسحر؟ ما سلوكه؟ قلت.
- السحر إيقاع قد يتوخى النظام وقد يتوخى الفوضى، الكريم منه يعيد التوازن إلى الكون، والخبيث يفقد التوازن وللإنسان خاصة. هذه القرية أنا من أعيد لها التوازن كلما اختل، وحتى عندما أخلق الفوضى فأنا أريد منها التنبيه للعودة إلى الطبيعة. لاحظ القدر التي تغلي بالنار، ولاحظ لسان النار وهو يرقص، كلما وهن أضفت الحطب، ولاحظ العناصر التي أحرقها كيف تتمازج بنسب رياضية، والكل فوق الأرض التي لا تميد، والتمازج بالماء، والريح تدخل في المسام وتلحم.
بسبب كل هذا العلم بهندسة الأهواء، كان أبي الفقيه يكره الساحرة. الفقه لا يمكن إلا أن يكره السحر، الأول استسلام وانقياد والثاني فتنة ورغبة في ترويض جموح الأهواء. السحر لا يهتم بالخطأ والصواب وبالحلال والحرام، لا يهمه سوى النفس وتقلباتها من حسد وحقد، ومن شغف ووله. ومن ثم الجميل والقبيح، والمتناغم والنشاز، السحر والفن توأم.
- المسيد والمدرسة يعلمان الكتابة والقراءة والحساب والقواعد والحفظ فحسب، لكن السحر وحده يعلّم الحياة. ابتداء بالعناصر، وانتهاء بالمرض مروراً بتقلب النجوم وأثرها على الأرض والأشجار والحشرات والبهائم والبشر. في الربيع، يستعد السحرة لصناعة التعازيم لأن النبات يلقي في الجو لقاح الحب والاستمرار. وفي الشتاء، ننتظر كما الرحم يحضن المولود، وفي الصيف والخريف تولد المولودات. وعندما يُغضب البشر أرواح الطبيعة بالتعنيف بقلب القواعد تختل النواميس وتفسد الأمزجة ويعنف بنو البشر.
جل الحياة اليوم اختلت نواميسها، سواء في الفلح والسوق، أم في التدبير الصغير في المنازل والقرى والمدن، أم في التدبير الكبير في الدول.
- الدول وهل تعرفين شيئاً عن الدول؟ سألتُ.
- الدول مثل البشر، فيها المجنونة بالعظمة؛ والنائمة؛ وفاقدة الهمة الفاشلة، وغيرها. وحدهم السحرة يعالجون كل هذا.
- كيف يعالج السحرة ذلك؟
- شعار السحرة: داوني بالتي هي الداء، نزيد الهمة لأهلها والوهن لأهله حتى لا يختل التوازن. من يستحق القوة نهبها له ومن يستحق العلم نسعفه به، ومن اختار الهوان يبقى في الحفر ولا ينفع معه غير الكيّ.
خرجت من الأطلال ومن كلام الكاهنة لما نادى المنادي لصلاة العصر، سأصلي مع المصلين وأتيه في الصحراء.
* كاتب من المغرب