دخلنا بوّابة مدينة غوثام في الساعة العاشرة ليلاً، بصمت، وصعدنا الدرجات القليلة التي تؤدي إلى غرفة المهرجين والأقزام. جوكر جالس أمام المرآة، يدهن وجهه بمادة بيضاء، بعدما رسم الدموع المزيفة على مقلتيه. ترتعد الفتاة الإيطالية، نسمع حينها صوتاً من الردهة: احذروا الأخير، هنا القتلة يأتون في وضح النهار. نضحك مثل جوكر ونحاول أن ننتشل اليافطة من يده، إلا أن مجموعة من الصبيان تسبقنا، نقع على الرصيف، وننتظر مستسلمين الضربة القاصمة. لا... لا، لسنا في بغداد، ولا في دمشق أو في القاهرة، ونستغرب لأن من يتعرض للضرب المبرح الآن هو بطلنا، جوكر.
يجب أن نتبعه، لا شك أنه سيثأر، كم نتوق إلى الثأر. لأنكم متعطشون للدماء! يؤنبنا الصوت نفسه؛ الطليان لا يتساهلون مع الدخلاء، أولئك الذين لا يعرفون كيف يضغطون على الزناد. لا أستطيع أن أخمّن في الظلام من وضع المسدس في يدي، إلا أنني لا أتوقف عن إطلاق النار، مرة. مرتين. ثلاث مرات. يسقط اثنان من الأوغاد، ألحق الثالث وأرديه قتيلاً على درجات المترو.
تهزني الموسيقى الرقيقة، أمي وحيدة وأنا أحضّر لها طعام العشاء كل يوم. أشعر بأنني بطل، ونحن نتفرج على برنامجي المفضل، أنا وأمي. ها نحن نضحك سوية، وأمي لا تعرف أنني أصبحت قاتلاً. سقط الصاروخ على بيتنا قبل أيام من التحاقي بإخوة السلاح، هكذا يسمونهم، ولم تعرف أبداً عدد الأشخاص الذين قتلتهم، رغم أن كل الصحف في غوثام نشرت الخبر على صفحاتها الأولى: المهرج الذي يقاتل المستبدّين دفاعاً عن المستعبدين. كنا نحن أيضاً مهرجين، ولكن بلا أقنعة. هو الوحيد كان لديه قناع من لحم يشبه وجهه، ولم تكن لديه حاجة ليرسم دموعاً مزيفة على مقلتيه.
أفحص للمرة الألف علبة البريد، أتحسس الفراغ بيدي، وأعود إليها لأخبرها: لا شيء، ليس ثمة رسائل. ولكنه كان يحبني. إذن لماذا لا يردّ على رسائلك؟ أجرّب حظي في كباريه يقدم برامج متنوعة، أخرج دفتري القديم وأحاول أن أروي لهم نكتة. تنتابني نوبة الضحك الهستيرية ثانية، لا أعرف كيف أوقفها، أضحك من عبثية الحياة، ولكنهم لا يتفاعلون معي، ولا يفقهون معنى ضحكي. لماذا لم ترض بتلك الحياة؟ ماذا كان ينقصك؟ تدقيق على الهويات والموبايل وداخل المناديل. أين تكتب؟ لا أكتب. أنزلوه إلى القبو!
جوكر لا يُخفي أسراره على أحد. نتجاذب الحديث للمرة الأولى، في المقصف الملحَق باستديوهات التلفزيون، كيف حدث ذلك؟ أسأله. سرديتي القاتلة تعود إلى عام 1940، عندما تبناني أولئك البلهاء الثلاثة، بوب كين وبيل فينغر وجيري روبنسون، وجعلوا مني قاتلاً يعاني من خلل نفسي. وحشيتك تأسرنا، أبادره بلطف، ولكننا لم نصل أبداً إلى تلك العبثية التي تميزك عن الآخرين. اصغ إلى ضحكاتي وستعرف كل شيء. ينسلّ خفية في شوارع غوثام التي يعرفها كراحة كفيه.
وفي الردهة أمام شقة جارته صوفي، نبدأ حديثنا عن مفهوم الاستثمار، المصطلح الذي يُستخدَم للإشارة إلى السينما التي وُلدت دون طموحات فنية وتهدف مباشرة إلى البطن مع مشاهد الجنس والعنف. لكنني أرغب في استخدامه على نطاق أوسع قليلاً لتحديد تلك الأفلام التي ليس لديها ميول لخوض تجربة أو كسر الحواجز النمطية، قائمة من الأمنيات لمخرج أو لمن يتولى دفة القيادة، والذي ربما لا يوجد لديه ما يقوله، إنما يقوله بشكل جيد. منافسة غير مسبوقة لأولئك الذين لديهم فرصة جيدة للصيد؟ بعد ذلك أقترح: "ضحكاتك الخبيثة سوف تدفننا، أليس كذلك؟". لا يجيب، ربما بدأ يفكر في مصيره!
يواكين فيليكس، أحذّرك، لقد أنجزت المهمة تماماً، هذا فيلم إجرامي قذر وسيئ، والمخرج يصطاد بكلتا يديه في الماء العكر، تماشياً مع سينما هوليوود الجديدة (يكادون يطردوننا من عنف الضحكات). ثم أتخيل مع تود فيليبس مرجَعين رئيسيين: "سائق سيارة الأجرة - 1976" و"ملك الكوميديا - 1983" (كلاهما من بطولة روبرت دي نيرو وإخراج مارتن سكورسيزي)، ولا أجد من المستغرب أن يصوّر الفيلم في نيويورك: مدينة غوثام هي نفسها مدينة نيويورك المحمومة في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، مع الجريمة المتفشية والأزقة القذرة وسيئة السمعة والمباني القديمة التي تقف بأعجوبة على قدميها.
نهاية سريعة ومخيبة للآمال، أمشي ويواكين فينيكس بخطوات متعثرة، خشية من الممرض الذي يبدو أنه كان مختبئاً في زاوية الممر. أدرك في تلك اللحظة بالضبط، قبل أن أنتهي من التهام كيس البُشار، أنه رجل مجنون ومنحل لأن والدته عاملته معاملة سيئة، والمجتمع يعامله بشكل سيئ، والناس الذين يحيطون به ولا يفهمون ضحكاته أصبحوا الآن وقحين بطريقة استفزازية. ألوذ بالصمت أمام جسده على مقدمة السيارة التي كانت تقلّه إلى قسم الشرطة: إذا تماديت كثيراً في سرد تفاصيل أي أيقونة فإنك تنقضها.
يستفزني خطاب تود فيليبس حول الشعوبية التي تجد مرتعاً لها في الغضب الشعبي. الغضب أصبح خبزنا اليومي، ولكن المهرجين الكبار يغضبون أكثر منا، وهنا تصبح المعركة غير متساوية. فجأة، يقلب تود فيليبس أحد مفاهيم كريستوفر نولان رأساً على عقب، وهو مفهوم الرجل الذي يحب أن يُصبح رمزاً لفعل الخير. باتمان، في بدايته، يختار هذا الدور ويصبح رمزاً، وجوكر يصبح بالصدفة طرفاً في معادلة لا تعنيه بشيء، فيستخدم هذه القوة لإلحاق الأذى بالآخرين.
إذا كان فيليبس قد راهن على هذا الأمر قليلاً، فبدلاً من الانغماس في صورة نفسية غامرة، ويمكن التنبؤ بها تماماً، فربما التحفة التي كان يأمل في إنجازها قد أنجزها فعلاً. انتابتني هذه الفكرة بعدما خرجت من غرفة الطبيبة النفسية. نظرت إلى الوراء، عدة مرات لأرى أثر الدم التي تتركه قدمايّ على أرضية الممر الناصع البياض. لا شيء. مرة أخرى. لا شيء. لقد خنقتها، لكل متفرج دوره! كانت الفتاة التي تجلس بجانبي تلهث، أو ربما تلفظ أنفاسها الأخيرة!
لولا ضحكات جوكر العصبية، لبقيتُ متسمّراً في مكاني. خرجت من باب الطوارئ مثل رصاصة طائشة، وبدأت أعدو في الشوارع بلا هدى. كنت الوحيد بين جموع من المهرجين، وصوت جوكر ما زال يلاحقني: الأمور بخواتيمها يا صديقي، ويضحك كثيراً من يضحك أخيراً!
* كاتب سوري مقيم في ميلانو