تقف هذه الزاوية مع الكتّاب العرب في يومياتهم أثناء فترة الوباء، وما يودّون مشاركته مع القرّاء في زمن العزلة الإجبارية.
منذ أن بدأت أخبار ظهور وانتشار فيروس كورونا في مدينة ووهان، نهاية السنة الماضية، خمنتُ أن الأمر يتعلق بتجريب أو هو انفلات قد تكون من تبعاته اندلاع حرب بيولوجية، لأن نظرتي إلى القوى الاقتصادية العالمية ليست بريئة، ولن تكون أبداً... خمنت في انفلات كتل فيروسية من مختبرات تشتغل في السر.
وعندما تفاقم انتشار كوفيد 19 في ووهان، وأُعلِنت مدينة محجورة ومنكوبة، تابعت فيديوهات للطلبة المغاربة العالقين هناك، وهم يستنجدون بالسلطات المغربية لإجلائهم لأن الموت لا يستثني أحدا... ومن غريب الصدف، بعد أن عادت بهم الطائرة المغربية إلى الوطن، سيتم حجرهم بمستشفى "سيدي سعيد" بمكناس الذي لا يبعد عن بيتي سوى قرابة ثلاثمائة متر، ما يعني أنني بتّ قريبة أكثر ما يكون من الفيروس، وهو وضع يدفع إلى توقع الأسوأ، لا سيما إذا أعدت تأمل واقعنا الصحي، وذلك في غياب اللوجستيك المفترض توفره لتطويق الجائحة ومنع انتشارها، ولا يخفى ما تعانيه المستشفيات عندنا من نقص وعجز في المعدات والأطر والعناية المركزة وأقسام الإنعاش.
رغم ذلك، لم أشعر بذلك الرهاب الذي استحوذ على كثير من الناس، لكنني خمنت بخيبة في مصير المجتمعات التي لا تنتج أمصالها، ولقاحاتها ولوازمها الاستشفائية، وتقبع مهيضة الجناح حائرة في طابور انتظار فرج قد يطل من مختبرات البحث العلمي الألمانية أو الأمريكية أو الصينية...
في أيام الحجر الأولى، لم أجد أي فرق يذكر بين إيقاع حياتي قبل وبعد، لأنني مُحبة للعزلة، هاربة من فضاء عام لم يعد مريحا. فباستثناء السفر إلى مدينة القنيطرة للعمل مرة أسبوعيا، والخروج للتسوق، بشكل مختزل جدا، لا أشعر بحاجة إلى هذا الخارج الذي أجهز الجهلُ، وتدني السلوك المدني، وتراجع الأخلاق على نقائه وجماله.. وبالتالي كنت داخل بيتي سعيدة بهذا السكون الذي يخيم على الشوارع والطرقات المجاورة.
وضمن هذا الحجر، لم تكن لي عودة إلى مكتبتي، كما تحدث عن ذلك كثيرون ممن فرضت عليهم العزلة إعادة بناء علاقة معها، ببساطة لأن مكتبتي هي بيتي المقيم، فكأنني لا أغادرها أبدا، إنها في صميم حركتي اليومية. وهي في ذلك مرنة مع مقتضيات مشاريعي البحثية التي أشتغل عليه. فمرة يكون البحث في مجال البيداغوجيا، كما حصل قبل شهر، حين كنت أحضر دراسة لي حول "فنون الموبايل: طرق سيارة نحو التعلم الرقمي" للمشاركة في المؤتمر الدولي الثاني حول قضايا البيداغوجيا والديدكتيك، والذي في إطاره كذلك، كنت أراجع وأُعِدّ، بصفتي منسقة، كتاب هذا المؤتمر، الذي ينظمه فريق"المدرسة وبدائل التعلم". بالتالي كانت علاقتي بجناح المؤلفات البيداغوجية والديدكتيكية والمعاجم قوية خلال تلك الفترة؛ ثم انتقلت إلى مشروع دراسة نقدية مسرحية، فيممت وجهي شطر جناح المسرح في مكتبتي... المكتبة، بالنسبة إلي، طاقة نووية أحيا بها. كان بودي إعادة قراءة "الطاعون" لألبير كامي، لكن ضغط البحث لم يسمح بذلك.
هكذا أنا دائما بين مشاريع بحثية ينبغي مواصلة إنجازها. الجديد هو التخطيط لتدريس الأساتذة المتدربين، عن بعد. وعموما، وزعت برنامجي اليومي بين الصلاة والدعاء لرفع الجائحة، الاستماع إلى فيروز وروائع الموسيقى العربية والعالمية، الاشتغال على الكمبيوتر بمعدل ستة إلى ثمانية ساعات يوميا، حوالي ساعة في المطبخ. في المساء، كنت أخصص ساعة لمتابعة مسلسل لتغيير جو البحث، وبعده ساعة لممارسة الرياضة. وليلا أقضي حوالي ساعتين بين القنوات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي للاطمئنان على معارفي. ولا بد من نوم كافٍ لصيانة الجهاز المناعي.
أما ما يتعلق بالكتابة الإبداعية، فكلما استبدت بي رغبتها أكتب قصصا قصيرة وطيدة الصلة بالجائحة، وبالمعيش اليومي للمغاربة زمن الحجر الصحي... كما بدأت كتابة نص مسرحي. وقد تَرجمتُ، بداية دخولنا في الحجر الصحي، مقالا لكريستوف باربيي Christophe Barbier تحت عنوان "المسرح الكبير للوباء، عرض الفيروس التاجيّ" تناول فيه حال العالم، وتاريخ الصراع بين الدين والمسرح، وعلاقة المسرح بالجوائح.
بالكتابة والبحث يستمر المسرح ولو رمزيا، فقد توقفت العروض قسرا. المسرح في ذلك مثله مثل قطاعات كثيرة، لكن هذا الظرف مدعاة لّإعادة النظر في ماهية هذا الفن، وفي قيمة حضوره، وفي رهاناته الفكرية والجمالية. من قبل كورونا، يبدو المسرح العربي في معظم تجاربه، مريضا ومكررا منذ زمن، بل هو في أحيان كثيرة تافه وخال من أية قيمة. وحتى يُشفى هذا المسرح، ويواصل بقاءه أبا للفنون، ومنبعا للنبل والجمال، وترياقاً لآفات مجتمعاتنا.. عليه أن يباشر استئصال الأورام التي تنخره.
لا أنسى أيضاً رعاية مغروساتي الأثيرة، خاصة وأن انتشار كورونا صادف بدايات فصل الربيع بما هو عودة إلى الحياة وبداية دورة الإزهار والإثمار. أنا في الأصل فلاحة. علمني والدي -رحمه الله- كل فنون الغراسة التي تسود في الواحات، وكل ما يرتبط بها من تربية مواشي وتقاليد زراعية. حديقتي هي انزياح لتجاوز بؤس العالم.. هنا حيث كل شجرة ونبتة تعرف مكانها، واسمها، وموقعها في قلبي، هنا حيث خروجي لتحيتها والاطمئنان على صحتها طقس يومي لا يستقيم إيقاع حياتي إلا به. هي حديقة في إقامة سكنية أجمل ما فيها مشتل الأغراس الذي يزود حديقة جيراننا بالشتلات الجديدة حيث نعوض بها الشجيرات الميتة.
من رعايتي هذا الفضاء، يسعد جيراني بمنظر الورود والزهور على الأشجار والأغراس، وحتى على الصبار؛ كما يتلذذون بليمون طبيعي، وبنعناع وفلفل حارٍّ خاليان من المواد الكيماوية، وبنباتات طبية يحتاجونها لعلاج السكري، وتجلط الدم، والحمى إلخ... يساعدني جاري السي محمد في تشذيب أشجار التسييج، وفي قص العشب الأخضر، وتحضير الشتلات ومتابعتها.
الحديقة، في تاريخ التمدن البشري، هي رمز للتحضر والأناقة وفن العيش، حيث تخصص لها مساحات معتبرة، وتتم العناية بها باستمرار، ويتعاون الجميع لصيانة نظافتها وجمالها. لكن مكناس، المصنفة من لدن اليونسكو، مدينة عريقة عالميا، للأسف، تراجعت بيئيا، منذ سنة 2000، وصارت فضاءاتها الخضراء متروكة للإهمال، والنفايات، والمتسكعين... وهذا مؤشر دال على تراجع سياسات المدينة بكل ما تضمر من تخلٍّ عن الرقي في السلوك والذوق.
لست متفائلة بما بعد كورونا، لأن العالم الذي لم يتعظ من كوارث الحربين العالميتين، لن يتعظ من جائحة كوفيد 19. وسواء اعتبرنا كورونا انفلاتا لمركَّب بيولوجي، أو فيروسا متسللا من خفافيش لاذت بسوق السمك لأن اجتثاث الغابة دمر أعشاشها... فالقادم أشد على الأجساد والأنفس والعقول.
* كاتبة وباحثة في الأنثربولوجيا والمسرح والديداكتيك من المغرب. من مؤلفاتها: "الأنثروبولوجيا والأنثروبولوجيا الثقافية" (2009)، و"الإيروس والمقدّس.. دراسة أنثروبولوجية تحليلية" (2010)، و"مدوّنة القنص بالصقر.. دراسة أنثروبولوجية مقارنة" (2013)، و"الخيّالة والمسيخ" (2010، مجموعة قصصية)، و"أهازيج إبراهيم الحموي" (2019، مسرحية). كما ترجمت "معجم بورديو" وتَصدر قريباً ترجمتها لـ"معجم يونغ".