من الرحالة الأفذاذ الذين زاروا الشام في أثناء الاحتلال الصليبي في القرن السادس الهجري، والثاني عشر الميلادي، أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي الشاطبي البلنسي الشهير باسم ابن جبير.
وقد قام ابن جبير بثلاث رحلات إلى الشرق، ودون أخبار الرحلة الأولى، التي استغرقت أكثر من ثلاث سنوات، في نص أشبه بالمذكرات اليومية، التي نالت شهرة عالمية لم تدانها شهرة أي رحلة أخرى من الرحلات التي تعتمد هذا الأسلوب، وكان ذلك بعد عودته إلى الأندلس عام 581 للهجرة، ولها عنوانان: (كتاب اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك) و(تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار).
مولده:
ولد ابن جبير في بلنسية بالأندلس بين عامي 539 و540 هـ، 1145م، وقد شغف أول ما شغف بعلوم الدين فسمعها من أبيه في شاطبة، وأخذ القرآن عن أبي الحسن بن أبي يعيش.
ونجد أن الرحلة جاءت حافلة بالمشاهد والتجارب التي اكتسبها في أثناء تجواله في عجائب البلدان والمدن، ورؤيته لغرائب المشاهد واطلاعه على الشؤون والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية والتي كانت سائدة في تلك الفترات.
وقد استرعت اهتمام المستشرقين لما لها من قيمة نفيسة، فترجموا أول شيء القسم المختص بصقلية إلى الفرنسية وطبع في عام 1846، ثم طبعت الرحلة كلها للمرة الأولى في لندن عام 1852 بإضافة مقدمة له وضعها المستشرق رايت ثم أعيد طبعها ثمة أيضا عام 1907 مع ترجمة لمؤلفه.
وفي عام 1936 صدرت في القاهرة الطبعة العربية الأولى للرحلة بتحقيق الدكتور محمد مصطفى زيادة، وهي الطبعة التي أخذت عنها جميع الطبعات العربية اللاحقة. وقد اعتمدناها في دراستنا هذه.
الرحلة:
انطلق ابن جبير في رحلته يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال سنة 578 هجرية إلى الحجاز مع صديق له اسمه أحمد بن حسان، وكان من أهل الطب والعلم والأدب، فعبرا البحر إلى سبتة حيث ركبا سفينة جنوية أقلتهما إلى الإسكندرية، وقد انتقد ابن جبير في هذه المرحلة من الرحلة عمل جباة المكوس [رجال جمارك ذلك العصر] وتصرفاتهم الدنيئة مع المسافرين، ثم انتقل إلى القاهرة وجنوب مصر واليمن إلى أن وصل إلى الحجاز حيث أدى مناسك الحج ووصف وصفاً مسهباً مكة المكرمة والمسجد الحرام والمشاعر المقدسة، وزار المدينة المنورة. وقد بلغ هذا الجزء من الرحلة ما يعادل ثلثها تحريراً.
ثم سافر نحو العراق وقصد الجزيرة قبل أن يصل إلى الشام سنة 580 هجرية، ودخل دمشق في أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي، فسمع الحديث عن محدثها الخشوعي وابن أبي عصرون والقاسم بن عساكر وغيرهم ثم توجه إلى عكا، فنقل لنا وصفاً نادراً ولافتاً للأوضاع في عكا وصور تحت حكم الصليبيين. وقد ختم رحلته في يوم الخميس في الثاني والعشرين من شهر المحرم سنة 581 هجرية.
وبعد عدة أعوام قام ابن جبير برحلته الثانية إلى الشرق، بعد أن سمع بتحرير صلاح الدين لبيت المقدس، سنة 583 هجرية، ولكن للأسف الشديد لم تصل إلينا أخبار هذه الرحلة التي يفترض أن يكون قد زار خلالها بيت المقدس بعد تحريره.
أما رحلته الثالثة إلى الشرق، والتي لم يدونها أيضاً، فقد تمت سنة 610 هجرية، حيث أمضى بقية حياته متنقلاً بين مكة وبيت المقدس والقاهرة، مشتغلاً بالتدريس إلى أن وافته المنية في الإسكندرية سنة 614 هجرية.
وقد بدت منطقة عكا والأراضي المحيطة بها في هذه الرحلة مستسلمة لقدرها تحت حكم الصليبيين، وتظهر قوة الاقتصاد في مقابل القوة العسكرية، عبر تاجرين دمشقيين كان لهما أكبر الأثر في حياة هذه المملكة الصليبية، وهما نصر بن قوام، وأبو الدر ياقوت مولى العطافي.
أما الموظفون الفرنجة، الذين رآهم ابن جبير عند نقطة التمكيس في عكا، فقد كانوا يتحدثون العربية ويكتبون بها. ويبدو أنهم كانوا في طريقهم للاندماج في حضارة المنطقة على الرغم من الحروب المشتعلة.
ولعل الملاحظة المهمة التي لفتت نظر ابن جبير هي وجود متطوعين مغاربة للقتال ضد الفرنجة الصليبيين، وأن فرقة منهم كانت مع جيش صلاح الدين، وأن أولوية افتكاك الأسرى كانت لهم منذ عهد نور الدين واستمراراً خلال عهد صلاح الدين.
وعموماً يبدو الفرنجة الصليبيون في عكا طبقة عسكرية حاكمة ضمن بوتقة من العرب. وسواء طالت الأيام عليها أم قصرت كانت ستزول، إن لم يكن بفعل القوة العسكرية، فبفعل القوة الحضارية.
التوجه إلى عكا
يكتب ابن جبير: شهر جمادى الآخرة [580هـ] عرفنا الله بركته استهل هلاله ليلة الأحد، التاسع من شهر شتنبر [سبتمبر] العجمي، ونحن بدمشق، حرسها الله، على قدم الرحلة إلى عكة، فتحها الله، والتماس ركوب البحر مع تجار النصارى، وفي مراكبهم المعدَّة لسفر الخريف، المعروف عندهم بالصليبية، عرَّفنا الله في ذلك معهود خيرته، وتكفلنا بكلاءته وعصمته، بعزته وقدرته. إنه سبحانه الحنان المنان، وليُّ الطَّول والإحسان، لا رب غيره.
وكان انفصالنا منها عشي يوم الخميس الخامس من الشهر المذكور، وهو الثالث عشر من شهر شتنبر [سبتمبر، أيلول] المذكور، في قافلة كبيرة من التجار المسافرين بالسلع إلى عكة [عكا].
من أعجب الأحاديث
ومن أعجب ما يحدث به في الدنيا أن قوافل المسلمين تخرج إلى بلاد الإفرنج وسبيهم يدخل إلى بلاد المسلمين.
شاهدنا من ذلك عند خروجنا أمراً عجيباً، وذلك أن صلاح الدين عند منازلته حصن الكرك، المتقدم ذكره في هذا التاريخ، قصد إليه الإفرنج في جميعهم، وقد تألبوا من كل أوب، وراموا أن يسبقوه إلى موضع الماء، ويقطعوا عنه الميرة من بلاد المسلمين، فصمد إليهم، وأقلع عن الحصن بجملته، وسبقهم إلى موضع الماء، فحادوا عن طريقه وسلكوا طريقاً وعراً ذهب فيه أكثر دوابهم، وتوجهوا إلى حصن الكرك المذكور، وقد سد عليهم بنيات الطرق القاصدة بلادهم، ولم يبق لهم الاّ طريق عن الحصن يأخذ على الصحراء، ويبعد مداه عليهم بتحليق يعترض فيه.
فاهتبل صلاح الدين في بلادهم الغرة وانتهز الفرصة، وقصد قصدها عن الطريق القاصدة، فدهم مدينة نابلوس [نابلس] وهجمها بعسكره فاستولى عليها وسبى كل من فيها، وأخذ إليها حصوناً وضياعاً. وامتلأت أيدي المسلمين سبياً لا يحصى عدده من الإفرنج، ومن فرقة من اليهود تعرف بالسمرة منسوبة السامري، وانبسط فيهم القتل الذريع، وحصل المسلمون منها على غنائم يضيق الحصر عنها، إلى ما اكتفت من الأمتعة الذخائر والأسباب والأثاث، إلى النعم والكراع، إلى غير ذلك.
وكان من فعل هذا السلطان الموفق أن أطلق أيدي المسلمين على جميع ما احتازته، وسلم لهم ذلك، فاحتازت كل يد ما حوت، وامتلأت غنى ويساراً، وعفى الجيش على رسوم تلك الجهات التي مر عليها من بلاد الفرنج، وآبوا غانمين فائزين بالسلامة والغنيمة والإياب، وخلصوا من أسرى المسلمين عدداً كثيراً، وكانت غزوة لم يسمع مثلها في البلاد.
وخرجنا نحن من دمشق وأوائل المسلمين قد طرقوا بالغنائم كل بما احتواه وحصلت يده عليه، وكان مبلغ السبي آلافاً لم نتحقق إحصاءها. ولحق السلطان بدمشق يوم السبت بعدنا الأقرب ليوم انفصالنا، وأعلمنا أنه يُجمُّ عسكره قليلاً ويعود إلى الحصن المذكور. فالله يعينه، ويفتح عليه، بعزته وقدرته.
وخرجنا نحن إلى بلاد الفرنج، وسبيهم يدخل بلاد المسلمين، وناهيك من هذا الاعتدال في السياسة! فكان مبيتنا ليلة الجمعة بدارية، وهي قرية من دمشق على مقدار فرسخ ونصف. ثم رحلنا منها سحر يوم الجمعة بعده إلى قرية تعرف ببيت جَن هي بين جبال.
ثم رحلنا منها صبيحة يوم السبت إلى مدينة بانياس، واعترضنا في نصف الطريق شجرة بلوط عظيمة الجرم متسعة التدويح، أعلمنا أنها تعرف بشجرة الميزان، فسألنا عن ذلك فقيل لنا: هي حد بين الأمن والخوف في هذه الطريق لحرامية الإفرنج، وهم الحواسة والقطاع، من أخذوه وراءها إلى جهة بلاد المسلمين ولو بباع أو شبر أسر، ومن أخذ دونها جهة بلاد الإفرنج بقدر ذلك أطلق سبيله؛ لهم في ذلك عهد يوفون به، وهو من أظرف الارتباطات الإفرنجية وأغربها.
ذكر مدينة بانياس
يصف ابن جبير بني ياس كالتالي: هذه المدينة ثغر بلاد المسلمين، وهي صغيرة، ولها قلعة يستدير بها تحت السور نهر يفضي إلى أحد أبواب المدينة، وله مصب تحت أرحاء [طواحين مائية]. وكانت بيد الإفرنج فاسترجعها نور الدين رحمه الله.
ولها محرث واسع في بطحاء متصلة يشرف عليها حصن للإفرنج يسمى هونين، بينه وبين بانياس مقدار ثلاثة فراسخ. وعمالة تلك البطحاء بين الإفرنج والمسلمين، ولهم في ذلك حد يعرف بحد المقاسمة، فهم يتشاطرون الغلة على استواء، ومواشيهم مختلطة ولا حيف يجري بينهم فيها.
فرحلنا عنها عشيّ يوم السبت المذكور إلى قرية تعرف بالمسية بمقربة من حصن الإفرنج المذكور، فكان مبيتنا بها. ثم رحلنا منها يوم الأحد سحراً واجتزنا في طريقنا بين هونين وتبنين بواد ملتف الشجر، وأكثر شجره الرند، بعيد العمق كأنه الخندق السحيق المهوى، تلتقي حافتاه ويتعلق بالسماء أعلاه، يعرف بالإسطبل، لو ولجته العساكر لغابت فيه، لا منجى ولا مجال لسالكه عن يد الطالب فيه، المهبط إليه، والمطلع عنه عقبتان كؤودان.
فعجبنا من أمر ذلك المكان، فأجزناه ومشينا عنه يسيراً، وانتهينا إلى حصن كبير من حصون الإفرنج يعرف بتبنين، وهو موضع تمكيس القوافل، وصاحبته خنزيرة تعرف بالملكة، وهي أم الملك الخنزير صاحب عكة دمرها الله.
فكان مبيتنا أسفل ذلك الحصن، ومكس الناس تمكيساً غير مستقصى، والضريبة فيه دينار وقيراط من الدنانير الصورية على الرأس، ولا اعتراض على التجار فيه، لأنهم يقصدون موضع الملك الملعون، وهو محل التعشير، والضريبة فيه قيراط من الدينار، والدينار أربعة وعشرون قيراطاً.
وأكثر المعترضين في هذا المكس المغاربة، ولا اعتراض على غيرهم من جميع بلاد المسلمين، وذلك لمقدمة منهم أحفظت الإفرنج عليهم، سببها: أن طائفة من أنجادهم غزت مع نور الدين رحمه الله، أحد الحصون، فكان لهم في أخذه غنى ظهر واشتهر، فجازاهم الإفرنج بهذه الضريبة المكسية، ألزموها رؤوسهم، فكل مغربي يزن على رأسه الدينار المذكور في اختلافه على بلادهم.
وقال الإفرنج: إن هؤلاء المغاربة كانوا يختلفون على بلادنا، ونسألهم ولا نرزأهم شيئاً، فلما تعرضوا لحربنا، وتألبوا مع إخوانهم المسلمين علينا، وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم، فللمغاربة في أداء هذا المكس سبب من الذكر الجميل في نكايتهم العدو يسهله عليهم، ويخفف عنته عنهم.
ورحلنا من تبنين، دمرها الله، سحر يوم الاثنين، وطريقنا كله على ضياع متصلة، وعمائر منتظمة، سكانها كلها مسلمون، وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه، نعوذ بالله من الفتنة، وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها، وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط، ولايعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدونها أيضاً، ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم.
وكل ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذه السبيل: رساتيقهم كلها للمسلمين، وهي القرى والضياع، وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم، لما يبصرون عليه إخوانهم من أهل الرساتيق المسلمين وعمالهم، لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق. وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين: أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الإفرنج، ويأنس بعدله. فإلى الله المشتكى من هذه الحال، وحسبنا تعزية وتسلية ما جاء في الكتاب العزيز: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ.
فنزلنا يوم الاثنين المذكور بضيعة من ضياع عكة على مقدار فرسخ، ورئيسها الناظر فيها من المسلمين، مقدم من جهة الإفرنج على من فيها من عمارها من المسلمين.
فأضاف جميع أهل القافلة حفيلة، وأحضرهم صغيراً وكبيراً في غرفة متسعة بمنزله، وأنالهم ألواناً من الطعام قدمها لهم، فعمهم بتكرمته، وكنا فيمن حضر هذه الدعوة، وبتنا تلك الليلة.
وصبحنا يوم الثلاثاء العاشر من الشهر المذكور، وهو الثامن عشر لشتنبر [سبتمبر، أيلول]، مدينة عكة دمرها الله، وحملنا إلى الديوان، وهو خان معد لنزول القافلة، وأمام بابه مصاطب مفروشة: فيها كتاب الديوان من النصارى بمحابر الآبنوس مذهبة الحلى.
وهم يكتبون بالعربية ويتكلمون بها، ورئيسهم صاحب الديوان والضامن له، يعرف بالصاحب: لقب وقع عليه لمكانه من الخطة، وهم يعرفون به كل محتشم متعين عندهم من غير الجند، وكل مايجبى عندهم راجع إلى الضمان، وضمان هذا الديوان بمال عظيم.
فأنزل التجار رحالهم به، ونزلوا في أعلاه، وطلب رحل من لا سلعة له لئلا يحتوي على سلعة مخبأة فيه، وأطلق سبيله فنزل حيث شاء، وكل ذلك برفق وتؤدة دون تعنيف ولاحمل. فنزلنا بها في بيت اكتريناه من نصرانية بإزاء البحر، وسألنا الله تعالى حسن الخلاص وتيسير السلامة.
ذكر مدينة عكة
يرسم ابن جبير لوحة زاخرة بالحركة والحيوية لمدينة عكة، يكتب: هي قاعدة مدن الإفرنج بالشام، ومحط الجواري المنشآت في البحر كالأعلام، مرقأ كل سفينة، والمشبهة في عظمها بالقسطنطينة، مجتمع السفن والرفاق، وملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق. سككها وشوارعها تغص بالزحام، وتضيق فيها مواطئ الأقدام، تستعر كفراً وطغياناً، وتفور خنازير وصلباناً، زفرة قذرة، مملوءة كلها رجساً وعذرة.
انتزعها الإفرنج من أيدي المسلمين في العشر الأول من المئة السادسة، فبكى لها الإسلام ملء جفونه، وكانت أحد شجونه، فعادت مساجدها كنائس، وصوامعها مضارب للنواقس. وطهر الله من مسجدها الجامع بقعة، بقيت بأيدي المسلمين مسجداً صغيراً، يجتمع الغرباء منهم فيه لإقامة فريضة الصلاة، وعند محرابه قبر صالح النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، فحرس الله هذه البقعة من رجس الكفرة ببركة هذا القبر المقدس.
وفي شرقي البلدة العين المعروفة بعين البقر، وهي التي أخرج الله منها البقر لآدم، صلى الله عليه وسلم. والمهبط لهذه العين على أدراج وطية، وعليها مسجد بقي محرابه على حاله، ووضع الإفرنج في شرقيه محراباً لهم، فالمسلم والكافر يجتمعان فيه: يستقبل هذا مصلاه وهذا مصلاه، وهو بأيدي النصارى معظّم محفوظ، وأبقى الله فيه موضع الصلاة للمسلمين.
فكان مقامنا بها يومين. ثم توجهنا إلى صور يوم الخميس الثاني عشر لجمادى المذكور، والموفي عشرين لشتنبر المذكور، على البر، واجتزنا في طريقنا على حصن كبير يعرف بالزاب، وهي مطلَّة على قرى وعمائر متصلة، وعلى قرية مسورة تعرف بإسكندرونة، وذلك لمطالعة مركب بها أعلمنا أنه يتوجه بجاية طمعاً في الركوب فيه، فحللناها عشي يوم الخميس المذكور، لأن المسافة بين المدينتين نحو الثلاثين ميلاً، فنزلنا بها في خان معد لنزول المسلمين.
ذكر مدينة صور دمرها الله تعالى
مدينة يضرب بها المثل في الحصانة، لا تلقى لطالبها بيد طاعة ولا استكانة، قد أعدها الإفرنج مفزعاً لحادثة زمانهم، وجعلوها مثابة لأمانهم. هي أنظف من عكة سككاً وشوارع، وأهلها ألين في الكفر طبائع، وأجرى إلى بر غرباء المسلمين شمائل ومنازع، فخلائقهم أسجح، ومنازلهم أوسع وأفسح، وأحوال المسلمين بها أهون وأسكن، وعكة أكبر وأطغى وأكفر.
وأما حصانتها ومنعتها فأعجب ما يحدث به، وذلك أنها راجعة إلى بابين: أحدهما في البر، والآخر في البحر، وهو يحيط بها الا من جهة واحدة، فالذي في البر يفضى إليه بعد ولوج ثلاثة أبواب أو أربعة، كلها في ستائر مشيدة محيطة بالباب.
وأما الذي في البحر فهو مدخل بين برجين مشيدين إلى ميناء ليس في البلاد البحرية أعجب وضعاً منها، يحيط بها سور المدينة من ثلاثة جوانب، ويحدق بها من الجانب الآخر جدار معقود بالجص، فالسفن تدخل تحت السور وترسو فيها، وتعترض بين البرجين المذكورين سلسلة عظيمة تمنع عند اعتراضها الداخل والخارج، فلا مجال للمراكب إلا عند إزالتها. وعلى ذلك الباب حراس أمناء لا يدخل الداخل، ولايخرج الخارج إلاّ على أعينهم.
فشأن هذه الميناء شأن عجيب في حسن الوضع، ولعكة مثلها في الوضع والصفة، لكنها لا تحمل السفن الكبار حمل تلك، وإنما ترسو خارجها، والمراكب الصغار تدخل إليها، فالصورية أكمل وأجمل وأحفل.
فكان مقامنا بها أحد عشر يوماً: دخلناها يوم الخميس، وخرجنا منها يوم الأحد الثاني والعشرين لجمادى المذكورة، وهو آخر يوم من شتنبر، وذلك أن المركب الذي كنا أملنا الركوب فيه اسصغرناه فلم نر الركوب فيه.
عرس إفرنجي في صور
ومن مشاهد زخارف الدنيا المحدث بها: زفاف عروس شاهدناه بصور في أحد الأيام عند مينائها، وقد احتفل لذلك جميع النصارى رجالاً ونساءً، واصطفوا سماطين عند باب العروس المهداة، والبوقات تضرب، والمزامير وجميع الآلات اللهوية، حتى خرجت تتهادى بين رجلين يمسكانها من يمين وشمال، كأنهما من ذوي أرحامها.
وهي في أبهى زي، وأفخر لباس، تسحب أذيال الحرير المذهب سحباً على الهيئة المعهودة من لباسهم، وعلى رأسها عصابة ذهب قد حفت بشبكة ذهب منسوجة، وعلى لبتها مثل ذلك منتظم.
وهي رافلة في حليها وحللها: تمشي فتراً في فتر مشي الحمامة، أو سير الغمامة، نعوذ بالله من فتنة المناظر، وأمامها جلة رجالها من النصارى في أفخر ملابسهم البهية، تسحب أذيالها خلفهم، ووراءها أكفاؤها ونظراؤها من النصرانيات: يتهادين في أنفس الملابس، ويرفلن في أرفل الحلى، والآلات اللهوية قد تقدمتهم.
والمسلمون وسائر النصارى من النظار قد عادوا في طريقهم سماطين، يتطلعون فيهم، ولا ينكرون عليهم ذلك، فساروا بها حتى أدخلوها دار بعلها، وأقاموا يومهم ذلك في وليمة. فأدانا الاتفاق رؤية هذا المنظر الزخرفي المستعاذ بالله من الفتنة فيه.
مسلمو عكة:
ثم عدنا إلى عكة في البحر، وحللناها صبيحة يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى المذكورة، وأول يوم من شهر أكتوبر [تشرين الأول]، واكترينا في مركب كبير نروم الإقلاع إلى مسينة من بلاد جزيرة صقيلة. والله تعالى كفيل بالتيسير والتسهيل، بعزته وقدرته.
وكانت راحتنا، مدة مقامنا بصور بمسجد بقي بأيدي المسلمين، ولهم فيها مساجد أخر، فأعلمنا به أحد أشياخ أهل صور من المسلمين، أنها أخذت منهم سنة ثماني عشرة وخمسمائة، وأخذت عكة قبلها باثنتي عشرة سنة بعد محاصرة طويلة.
وبعد استيلاء المسغبة [أي: المجاعة] عليهم؛ ذكر لنا أنهم انتهوا منها لحال نعوذ بالله منها، وأنهم حملتهم الأنفة على أن هموا بركوب خطة عصمهم الله منها.
وذلك أنهم عزموا على أن يجمعوا أهاليهم وأبناءهم في المسجد الجامع، ويحملوا السيف عليهم غيرة من تملك النصارى لهم، ثم يخرجوا إلى عدوهم بعزمة نافذة، ويصدموهم صدمة صادقة حتى يموتوا على دم واحد ويقضي الله قضاءه. فمنعهم من ذلك فقهاؤهم والمتورعون منهم، وأجمعوا على دفع البلد والخروج منه بسلام. فكان ذلك، وتفرقوا في بلاد المسلمين.
ومنهم من استهواه حب الوطن فدعاه الرجوع والسكنى بينهم، بعد أمان كتب لهم في ذلك بشروط اشترطوها، والله غالب على أمره، سبحانه جلت قدرته، ونفذت في البرية مشيئته.
وليست له عند الله معذرة في حلول بلدة من بلاد الكفر الا مجتازاً، وهو يجد مندوحة في بلاد المسلمين، لمشقات وأهوال يعانيها في بلادهم: منها الذلة والمسكنة الذمية، ومنها سماع ما يفجع الأفئدة من ذكر من قدس الله ذكره
وأعلى خطره، ولاسيما من أراذلهم وأسافلهم، ومنها عدم الطهارة، والتصرف بين الخنازير وجميع المحرمات، إلى غير ذلك مما لاينحصر ذكره ولا تعداده.
فالحذر الحذر من دخول بلادهم. والله تعالى المسؤول حسن الإقالة والمغفرة، من هذه الخطيئة التي زلت فيها القدم، ولم تتداركها إلاّ بعد موافقة الندم، فهو سبحانه ولي ذلك، لا رب غيره.
أسرى المسلمين:
ومن الفجائع التي يعانيها من حل بلادهم أسرى المسلمين، يرسفون في القيود، ويصرفون في الخدمة الشاقة تصريف العبيد، والأسيرات المسلمات كذلك، في أسواقهم خلاخيل الحديد، فتنفطر لهم الأفئدة، ولا يغني الإشفاق عنهم شيئاً.
ومن جميل صنع الله تعالى لأسرى المغاربة، بهذه البلاد الشامية الإفرنجية، أن كل من يخرج من ماله وصية من المسلمين، بهذه الجهات الشامية وسواها، إنما يعينها في افتكاك المغاربة خاصة لبعدهم عن بلادهم، وأنهم لا مخلص لهم سوى ذلك بعد الله عز وجل، فهم الغرباء المنقطعون عن بلادهم.
فملوك أهل هذه الجهات من المسلمين والخواتين من النساء، وأهل اليسار والثراء، إنما ينفقون أموالهم في هذه السبيل.
وقد كان نور الدين رحمه الله، نذر في مرضة أصابته، تفريق اثني عشر ألف دينار في فداء أسرى من المغاربة، فلما استبل من مرضه أرسل في فدائهم، فسيق فيهم نفر ليسوا من المغاربة، وكانوا من حماة من جملة عمالته، فأمر بصرفهم وأخرج عوضاً عنهم من المغاربة، وقال: هؤلاء يفتكهم أهلوهم وجيرانهم، والمغاربة غرباء لا أهل لهم. فانظر لطيف صنع الله تعالى لهذا الصنف المغربي.
وقيض الله لهم بدمشق رجلين من مياسير التجار، وكبرائهم وأغنيائهم المنغمسين في الثراء: أحدهما يعرف بنصر بن قوام، والثاني بأبي الدر ياقوت مولى العطافي، وتجارتهم كلها بهذا الساحل الإفرنجي، ولا ذكر فيه لسواهما، ولهما الأمناء من المقارضين، فالقوافل صادرة وواردة ببضائعهما، وشأنهما في الغنى كبير، وقدرهما عند أمراء المسلمين والإفرنجيين خطير، وقد نصبهما الله عز وجل لافتكاك الأسرى المغربيين بأموالهما وأموال ذوي الوصايا، لأنهما المقصودان بها لما قد اشتهر من أمانتهما وثقتهما وبذلهما أموالهما في هذه السبيل: ينفقان أموالهما ويبذلان اجتهادهما في تخليص عباد الله المسلمين من أيدي أعداء الله الكافرين. والله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.