"نظرة أخرى" (2018، ورقة للنشر) هي ثالث مجموعة قصصية يصدرها الكاتب التونسي سمير بن علي، بعد "الهروب.. أو هكذا تبدأ القصص" (2000)، و"الارتطام" (2006). في الحقيقة، لا يمكن النظر إلى هذين العملين كمحطتين سابقتين، فبعض من نصوصهما يحضر كمكوّنات للإصدار الجديد، ونكتشف -للمفارقة- أن بعضها لا يزال يحمل راهنية، بل قد تضفي المسافة الزمنية ظلالاً ودلالات جديدة عليها، ربّما كانت هي "النظرة الأخرى" التي ينطق بها العنوان.
مثلاً، يستعيد بن علي قصة بعنوان "المكتبة" (من مجموعة "الارتطام")، وفيها تعود الشخصية الرئيسية إلى المعهد الذي درست فيه، لتقف على متغيّرات حادّة طمست معالم تربطها بالمكان، حيث "تغيّرت ملامح ذلك المقهى العتيق، غزاه البلّور والأليمينيوم والبلاستيك"، وأما المكتبة التي لطالما اشترى منها "الألغاز والقصص والروايات القديمة"، فقد وجد مكانها "بيتزاريا تدافع أمامها حشود التلاميذ"، بل يمعن الكاتب في السخرية حين يضع الشخصية أمام جدارية كان أحد أساتذتها قد رسمها، لتكتشف أن التلاميذ قد تلاعبوا بالتنقيط فيقرأ: "أعزّ مكان في الدنى سرج سابح .. وخير جليس في الزمان كبابُ".
يبدو مصير "المكتبة" هو نفسه بين زمني نشر القصة الأوّل والثاني، فقد زادت في السنوات التي تفصلهما وتيرة "مسخ" المكتبات محلاتٍ تجارية تباع فيها الأحذية والملابس الجاهزة والسلع المهرّبة.
يستدعي بن علي في مجموعته القصصية أيضاً سيناريو فيلم قصير كان قد أنجزه في 2010، بعنوان "فيسبوك". هنا، وإذا كان الشعور بالتغيّر الحادّ ممكناً قبل سنوات، ممثلاً في محاولة لحاق الأب بركب التكنولوجيا، فإنه بات اليوم أمراً واقعاً وعادياً إلى حدّ بات غير مرئي.
هكذا، يمكن أن نرى في "نظرة أخرى" نوعاً من السيرة الأدبية أو الفنية لمؤلّفه، وإن كسر هذا التصنيف بقصّتين ("مسامحة 1" و"مسامحة 2") تقعان في الراهن التونسي تماماً، فينشغل فيهما بن علي بمسألة العدالة الانتقالية، إذ يصطنع وضعيّتين يلتقي فيهما الضحايا والجلّادون، الأولى حين يُدعى رجل دولة قديم لإلقاء محاضرة، فيصعد له من بين المناقشين من يعتبر نفسه ضحية لسياساته في الثمانينيات، وفي الثانية تجمع طاولة مقهى بين رجل أمن سابق وأحد الموقوفين.
هذه الوضعيات التي تجد تونس ما بعد الثورة صعوبة في توفيرها وخلق مناخ سليم حولها، يأتي بها سمير بن علي ولكنه يؤثّثها بشيء من الصدامية والتنافر بين عناصرها. دائماً نقف مع نهايات مبتورة ينقطع فيها حبل الحوار أو يؤجّل إلى حيث لا ندري. ربما هو صدى ما يحدث في الواقع.