"لماذا هي النهضة المغدورة دائماً؟". هذا السؤال، أو التّساؤل القلِق إن صحّ التعبير، كان عنوان الندوة الفكرية التي قدّمها الباحث والمترجم السوري مُطاع صفدي (1929)، وأدارها مواطنه جمال باروت، في الدوحة مساء أمس الأول، بتنظيم من "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".
الندوة، وفقاً لصفدي، ليست محاضرة، بقدر ما هي "محاولة لإلقاء نظرةٍ على ما حصل لنا كعرب في تجربة الاستقلال في العصر الحديث". الفترة التاريخية التي يقصدها الباحث هنا، هي التي بدأت في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، أو ما سمّاها بمرحلة "النهضة العربية الثانية"، إن اعتبرنا أن الأولى هي التي كانت في أواخر القرن التاسع عشر.
يرى مؤسّس "مركز الإنماء العربي" أنّ تلك المرحلة اتّسمت بما كان فيها من "آمالٍ ومساعٍ حقيقية إلى تشكيل مفهوم كليّ وشامل لوجودنا كأمّة عربية ذات كيان وحدوي"؛ إذ أنّها، حسب رأيه، كانت مرحلةً تستقلّ فيها البلدان من الاستعمار؛ لتُشكّل، عبر دولها، نسيجاً واحداً قوميّاً، هو العالم العربي. لكن صفدي يعود ويكرّر سؤاله الأوّل: "ماذا حدث لهذه الأمة؟ لماذا هذا الانهيار الذي نعيشه الآن؟".
هذه النظرة التي قد تبدو متشائمة، يُعلّلها صفدي من خلال ما دعا إليه، وهو أن ننظر في واقعنا كما هو، بشكله الحقيقي "بعيداً عن التحليلات الأيديولوجية، وليس كما نريد أن نحن نراه". ومن هنا، يذهب صاحب "نظرية القطيعة الكارثية" في تفسيره إلى الانقسامات الطائفية والفئوية والعصبية التي تفتك في المجتمعات العربية، مُتّخذاً من العراق وسوريا نموذجين حيّين.
وبالنسبة له، فإن ما يرتكبه النظام السوري الآن بحق أبناء شعبه ما هو إلّا "تدميرٌ منظّمٌ وموجّه، يُراد منه، كما تفعل سائر الأنظمة، تدمير الأمّة، بل والعمل على إزالة الشعوب واقتلاعها من جذورها وعمقها الإنساني".
ويرفض صفدي تعليق كل هذا على الاستعمار والصهيونية فحسب، بل يرى أن "العلّة فينا بالأصل، لم يصنعوها هم. لا ننكر أنّهم استثمروا علَلنا، وأبرزها غياب الديمقراطية عن مجتمعاتنا، ابتداءً من الأفراد حتى بسلوكياتهم اليومية، وعملوا (الاستعمار والصهيونية) على تعزيز هذه العلل وتغذيتها وتطويرها كي يحقّقوا مساعيهم وأهدافهم التي تتلخّص في ما نحن عليه الآن من انهيار". وأضاف: "النهضة العربية السابقة قضى عليها الاستعمار، أما المعاصرة، فنحن من يقضي عليها"، متسائلاً عن ظاهرة كـ"داعش"، وكيفية تفسيرها، "هي التي ترتكب المذابح وتتخذ منها منهجاً تحت اسم الإسلام والخلافة".
ولم يقترح صفدي أي تصوّرات لآفاقٍ مستقبلية تتعلّق بالعالم العربي، بقدر ما اكتفى بالأسئلة المريرة: "لا أملك إجاباتٍ على تلك الأسئلة والظواهر. الحل الوحيد في مواجهة ما تتعرض إليه الأمة يكمن في الإلحاح في التساؤل والرّفض الدّائمين، لكي نُخرِجُ واقعنا من سياقِ "العادي"؛ لأنّه أصبح مجرّد حديثٍ تتبادله الصحف لا أكثر".
وإن كان صفدي يرى أن المحاضرات النظرية والسياسية لم تعد ناجعةً ومُجدية، فإنه من جهةٍ أخرى، قدّم مفهومه لدور المفكّر النهضوي تجاه أمّته: "إن النهضوي مؤسّسٌ لحضارةٍ، وليس مجرّد وريثٍ لها"، مؤكّداً أن حاجتنا إلى النهضة ليست مجرّد حاجة سياسية، وإنما تكوينية، تعيد بناء الإنسان العربي.
ويخلُص صاحب "نقد العقل الغربي"، إلى أن ما يدور في الوطن العربي الآن، ما هو إلّا "تكرارٌ موسّعٌ لما حدث في فلسطين، التي كانت في الخمسينيات القضية المحورية، وكان كلّ همّنا في ذلك الوقت هو الوقوف في وجه العدو الأول لهذه الأمّة؛ إسرائيل".
وفي رأي صفدي، كلّف هذا الصّراع أبناء ذاك الجيل الكثير: "لقد خضنا هذا الصراع من دون أن ننتبه إلى الأنظمة التي استخدمته كوسيلة لتعزّز من خلالها استبدادها، فنسينا، بالمقابل، قضايانا الذاتية الداخلية؛ التربوية والثقافية والاجتماعية، وكل الأمور التي تصنع منّا أمّة، وخسرنا الاثنتين: فلسطين وعروبتنا".
ما بدا لنا غائباً عن محاضرة صفدي هو تفاؤل الإرادة ورؤية الممكنات في الواقع العربي الجديد الذي ليس كلّه داعشاً. صحيح أننا دخلنا في ثورات مضادة وإطلاق ظلاميات عديدة، ولكن هذا لا يلغي أن الشعوب العربية أسقطت مفهوم الاستبداد وكوّنت ثقافة جديدة، وهو ليس بالأمر الذي يمكن تجاوزه.