إلى جانب شعراء مشهورين في الأدب الألماني، ممن تأثروا بـالثقافة العربية الإسلامية، ولم يخفوا إعجابهم بها، مثل غوته أو هاينريش هاينه، يمكننا بلا شك أن نذكر راينر ماريا ريلكه، خصوصاً نصوصه، ومنها رسائل إلى أصدقائه، كتبها خلال رحلته التي قادته إلى شمال أفريقيا، وخصوصاً إلى مدينة القيروان التونسية.
وهي رحلة ستؤثر لا ريب حتى في رؤيته إلى ثقافته ومجتمعه الغربي وتدينه، فيكتب مثلاً في رسالة إلى إلزه بلومنتال فايس: "إن الدين غاية في البساطة. فهو ليس معرفة، وليس مضموناً لعاطفة. وهو ليس واجباً أو تخليّاً عن شيء ما، أو تقييداً، إنه في هذا الفضاء الكبير الواسع: اتجاه للقلب (...)، فالعربي يتوجه في ساعات معينة نحو الشرق بكل خضوع وخشوع، هذا هو الدين".
وفي رسالة أخرى إلى لو أندرياس ـ سالومي، كتب يقول: "هنا أقرأ القرآن وأندهش، أندهش، وأشعر مرة أخرى برغبة في العربية". وتعتبر "رسالة محمد" من النصوص الشعرية القليلة في الأدب الألماني التي تعرضت لشخصية الرسول العربي، وهو يصف فيها لقاء النبي بالملاك جبريل كما جاء في سورة "العلق"، ويكتب: "أشار إليه الملاك رافضاً كل مقاومة/ أشار اليه بقوة أن "اقرأ"/ ما كان موجوداً على اللوح ولم يتراجع/ فقرأ حتى انحنى له الملاك".
ومن الكتب القليلة في العربية التي تعرضت لحياة ريلكه ومغامرته الأدبية والوجودية، كتاب عبد الرحمن بدوي "الأدب الألماني في نصف قرن"، والذي خصّصه بالكامل لهذا الشاعر. وفي هذا الكتاب سيعيد بدوي كتابة بعض رسائل ريلكه إلى أصدقائه، ومنها تلك التي يتحدث فيها عن الإسلام والنبي العربي، ويكتب: "أما النبي محمد فهو يشبه نهراً يشق طريقه من الينابيع الأصلية في الجبال ويجري فيضه الثر حتى يصل إلى الله مباشرة، وبهذا أصبح في وسع المسلم أن يتحدث مع الله مباشرة كل صباح، وذلك في الصلوات اليومية، دون حاجة إلى وسيط يصل بينه وبين الله".
وسيتعرض بدوي خصوصاً في الفصل الثالث "الشاعر ريلكه في مصر"، للعلاقة التي نسجها هذا الشاعر بالشرق، ويقتفي خطى رحلته المصرية بدقة متناهية، ويصف ذلك الانجذاب الكبير الذي شعر به ريلكه أمام مصر الفرعونية، كما يظهر ذلك من قصيدة "الكرنك"، التي، وكما كتب بدوي: "أودع فيها ريلكه كل انطباعاته، في لغة مستسرة غريبة صعبة على الفهم، قابلة للعديد من التأويلات. والموضوعات الرئيسية التي تناولها فيها هي: البقاء، العظمة في التماثيل، السر، التضحية والزهد. وهي موضوعات تسري عروقها في شعر ريلكه كله".
تجدر الإشارة إلى أن كل ما كتبه ريلكه عن مصر، من شعر ورسائل وملاحظات، قد صدر في كتاب باللغة الألمانية، يحمل عنوان "رحلة إلى مصر"، بإشراف هورست نافلسكي. ومن أفضل الدراسات التي تعرضت لتأثير الشرق في ريلكه، هي التي أنجزتها المستشرقة المعروفة آنا ماري شيمل، والتي صدرت في كتاب عن دار زوركامب يحمل عنوان: "ريلكه اليوم، العلاقات والتأثيرات"، ولكن لم تخصص فيها شيمل أكثر من ثلاث صفحات لرحلته المصرية، وسطوراً قليلة للحضارة الفرعونية.
"البساطة والحيوية"، بهاتين الكلمتين سيصف الشاعر الإسلام. وتظهر رسائل ريلكه أنه تأثر كثيراً بطريقة حياة المسلمين، وحدة الإيمان والأخلاق والتقاليد. والتي وجد فيها تحقيقاً مثالياً للوجود الإنساني. بل والتي قدمت له جواباً، كما أوضح الباحث الفرنسي جان فيليبون، عن الأسئلة التي تطرحها الحرية الغربية. فما اعتبره بعضهم قدرية وجبراً، وجد فيه ريلكه بديلاً للعدمية الغربية، ولربما كان هنا قريباً إلى حد ما من نيتشه، الذي كان يعتزم القيام برحلة إلى تونس، لأنه لن يستطيع معرفة كنه الغرب إلا من خارجه. لكنه خارج سيظل أقرب من الداخل بالنسبة لشاعر مثل ريلكه.