والآن تجرّ الذاكرة بحبل سميك
تحاول رسم صورةٍ له
كان يحملك بفرحٍ في خريف عمّان وشتاء موسكو وصيف دمشق وربيع بيروت، كنت تركض حرّاً في حقول حضنه وهو يدرّبك على النطق السليم وفقه المسير، وصار عليك أن تحمله بكثيرٍ من التباس الحزن بالشفقة
لو أنّك تغفر لي، يقول
وينوس كغريبٍ في مينائه الستين وأنتَ تحملك هواجسك الصغار وتحمل معك حلم الطفولة الذي صار كابوساً
كنت تحب العبث بشيءٍ غريب في وجهه، عرفت فيما بعد أنه ندبة ورثها من قسوة جدّك.
تذكر
يوم جررته من يده إلى جبل قاسيون، كان مطيعاً كولد مندهش بثياب العيد الجديدة
سألك وأنت تناوله جعة باردة: ما الذي تريد؟
رددت، وأنت تنصحه بقليلٍ من الملح: لا شيء سوى لقاء أخير
راح يحدّثك عن حيفا وغير حيفا
مدن كثيرة، بيروت، دمشق، موسكو، مراكش، صوفيا وتونس
يقول لك إنه صنع في كل مدينة جزءاً من مؤامرة العودة إلى حيفا
هو لم يعد وأنت مطالب بإيقاف الذاكرة عند مؤشر العودة
ما العودة
وإلى أين ستعود ومن أين ستغادر، وماذا يعني أن تغادر وتعود أو أن تعود وتغادر، تغادر مكاناً ليس لك وتعود إلى مكانٍ تقول إنه لك، هل يكفيك الغمد لتفتح معركة مع التاريخ وهل تكفيك ذاكرة جدتك الرحبة وأنت تحارب المكان والزمان والأساطير
تدعوه للنزول عن درج الحكاية، يتهمك أنّك لم تر ماضيه المسمّد بالليمون والزرنيخ.
كأنّه كان يعلم أنه سيهوي دفعة واحدة
يتابع طحن الكلام
لن تعبر النهر ولن تأتيك الضفة الأخرى
كنت طفلاً وجاءتك الحياة وآذار يلوح بيدِه مودّعاً نيسان.
لم تكن تبكي كأنّك رصدت كل شيءٍ من ثقب في بطن أمك
ويبتسم
كانت تحبّك وتكثر الحديث عن الشمال، فالبحر يحملنا دائماً إلى مجهول نصرّ أنه سيكون
جميلاً
يصمت كثيراً
وأنت تفتح باباً آخر لتدفق الذاكرة.
صورة غامضة
هنا سقطت عن ظهر الحكاية وأنت تتحسس ندبته التي وقفت كذكرى اعتراضية بين عينيك
هو يذكرك بك
لم تكن تهوى ما يفعل أقرانك من الصغار، كنت مهووساً بتسلق شجرة الخوخ وسط الدار، فقط لتخبر عصفورك الحذِر أنك أكبر وأنك أصغر وأنك مثله تحب مشاكسة الجاذبية.
أولست الذي كان دائم الاعتقاد أن الحنين كما الحلم؟
خبرتك الشخصية في تصنيع ما ينقصك من أساطير وأن الزمن كما الأسطورة
هنا
صورة غامضة تحاول نبشها بحذر ترى طفولةً تائهةً بين جنوب ذكوري وشمال أنثوي الطباع. ترى فتى يعاني من نقص حاد في أناه
يحتل الزوايا
يحمل ورداً أحمر
يحمل شبقاً أكثر وحبّاً أقل
ترى نفسك مهجوراً كـ "لام" شمسية
كنت تحتفظ بحقك بالعودة وحيداً إلى كهوفك في زيارة مليئة في الكنايات والتشابيه
لم تصطحب معك أحداً
كان ينقصك امرأة
امرأة
تخبرك أنك غريب ينثر وجهه حنطة على ضياع الحكاية الأولى
امرأة
تجعلك تقف عند حدود قناعاتك، تضيئ لك القلب، تقودك إلى مراجيح طفولتك، لترى أنك كنت انتقائياً في أحلامك وآلامك وغراماتك
امرأة
تجلس في ظلك
ترميها داخلك
تمسّد شعرك
وكلّما صحوت تأمرك بالعودة.
عبور ساقية الأهواء
أنت الذي أحببت دوماً معاندة السماء
تدخل مستودع ذكرياتك، تشطب ذكرى هنا وتبتدع واحدةً هناك، تقيم هدنةً مع ما فعلت وتحرّف بعض ماضيك. لم يعجبك ما جاء في كتابك، لم تأخذُه بيسارك ولا بيمناك فعلت، رفضته وكتبت ما تريد
كتبت عن الفرح ونسيت أن كثيرات أحببن ماضيك المبعثر
كتبت عن الطفولة ونسيت عصفورك الحذر
نسيت أنّك أنت من أغوى الشتاء فأتى مخاضك كمطر أيار
ملل لا شيء فيه سوى هلعِ البراعم على مستقبل الربيع
هذا ما كتبت
هذا ما نسيت
خطأ ما جعلك تنسى وأنت تعيد ترتيبَ فصولك ترك مسافة بين فصلين من الذكرى. هو لا يستطيع المكوث أكثر بلون رمادي وأنت تخشى دفنه وتخاف عبوره إلى واقعِ ما كتبت. هو يعرف عناوينك كلها ومحطات خيباتك وبعض ما حذفت منك ويعرف لهاثك وراء نفسك
يتعب الغريب وتتعب
تجلسان
تستريحان
تغفوان
تحلمان بقابيل يبحث عن غراب آخر.
***
كل ما تعرفه أنه ليس أنت وليس الذي صرت
كأنَّه أحد أطوارك أو ما فاتك من غياب مدنس بقداسة السؤال
من هو
من أنت
يقول إنه يشتهي الجلوس إلى شرفة زجاجية تطل على وادي الهواجس وأنت وكلما حدقت في سراديبك تراه مشغولاً بترتيبِ ماضيك.
هو الآن يتسلل إلى غرفة نزواتك يحاول التقاط مشاكسة ما، يضعها على رف الخجل
تسأل في سرك
أهو مصاب بالعبث
يقول في سره
إنَك تعاني من انفصام في الطموح
تغضّ الطرف وتتجاهل عبوره ساقية أهوائك
يغض الطرف ويبتسم، كأنَّه قرأ طالعك قبل الآن
***
هو عراك حتى الخريف
وأنت تتشظى أمام يسوعك العاجز
كطائر فقد بوصلة الرياح.
* كاتب فلسطيني مقيم في طهران