ثمة شعور عام سائد اليوم بأن نسق العنف والرعب في تزايد مستمر. إلى زمن ليس ببعيد، كانت بؤر العنف والرعب تتموضع في "الهامش" العالمي، غير أنها مع هجمات أيلول/ سبتمبر 2001 ثم بتتابعها مؤخراً في باريس وبروكسل وغيرها من المدن الأوروبية قد بلغت "المركز"، وهكذا يستفيق العقل الغربي على هاجس أمني بات عليه أن يوظّف له قدراته الفكرية.
ضمن موجة الإصدارات التي تظهر في موسم "الدخول الأدبي" في فرنسا، صدر عن منشورات "سُويْ" منذ أيام كتاب "دولة الحذر" للمفكر الفرنسي ميخائيل فوسل الذي يبدو وقد انهمك كغيره في الجدال الموسّع حول الراهن، غير أن متابع مسيرته سيشعر بأنه كان يقترب شيئاً فشيئاً من هذه النقطة، فأعمال مثل "خصخصة الحميمي" و"زمن العزاء"، ورغم أنها تتناول مواضيع بعيدة شيئاً ما عن تطوّر الأحداث في الواقع إلا أنها تخدم كثيراً مقاربات الكتاب الأخير.
يرى فوسل أن العالم يعيش اليوم على وقع تضخّم المسألة الأمنية، ليس فقط على مستويات تأمين الحركة الاقتصادية وطمأنة المجتمع، بل أيضاً على مستوى الفكر ذاته، حيث أن العقول في مجالات التخطيط الإستراتيجي والمعمار والفلسفة باتت تخصّص جهودها لخدمة توجّه عام نواته الصلبة هو الهاجس الأمني.
يحمل الغلاف عنواناً فرعياً "نقد التفاهة الأمنية" ومن خلاله نتحسّس الزاوية التي يمسك منها فوسل موضوعه، فالنزعة الأمنية التي تحكم السياسات لا تروق له، ليس فقط بسبب تقييدها للحريات العامة، بل أيضاً لأنها تفتح الباب على شبكة من الفرضيات (نظريات المؤامرة، إمكانية استثمار السياسيين للخوف، عودة الدولة السلطوية..) لا يمكن فحصها عقلانياً في ظل تحوّل الأمن إلى مطمح عام، وهو ما يقود إلى خطر انهيار صفاء العقل البشري.
يرى فوسل أن ثمة ربطاً بين المرحلة الاقتصادية التي يمر بها العالم (ما بعد النيولبرالية) وبين هذه النزعة الأمنية، فالنظام الاقتصادي العالمي يدفع باتجاه تركيز الثورات بين أيدي قلة، وهؤلاء في حاجة إلى بناء تدريجي وطويل المدى لإنجاز بنية تحتية للمنظومة الأمنية في سبيل حماية ثرواتهم.
على مستوى تطبيقي، يتتبّع المفكر الفرنسي النزعة الأمنية في النصوص القانونية، كما أنه يرى أن فكرة الخوف (المقابل المعجمي لمفردة الأمن) يجري توسيعها، إذ إنها لا تتعلق بالإجراءات الموجّهة ضد الجريمة والإرهاب فحسب بل تصل إلى النظرة إلى الطبيعة.
يشير هنا إلى تشابهات بين الخطاب الرسمي في مواجهة العنف والتطرف والخطاب الذي تنتجه القمم المناخية، أي أن الطبيعة باتت هي الأخرى جزءاً من مجال الخوف وبالتالي فهي مثل المجرم أو الإرهابي ينبغي إقصاؤها.
بهذا الطرح، يصل فوسل إلى أن الدولة اليوم بصدد التحوّل إلى جهازٍ لإدارة "رعايا" ومجموعة المخاوف المتحرّكة على الأرض، ويقول بأن هذا المتغيّر سيطأ بأقدامه الكثير من مكاسب البشرية من عصر التنوير إلى اليوم، وبالتالي ينبغي التفكير جدّياً في مقاومته.