أصدرت وزارة الثقافة المغربية، مؤخراً، بياناً صحافياً نشرته المواقع المحلية ووكالة الأنباء الرسمية، حول قيمة مبالغ الدعم الذي قدمته لقطاع الثقافة في الأشهر الثلاثة الأخيرة من 2017، وقد قدرت هذا الإنفاق بحوالي 4 مليارات سنتيم مغربي (حوالي مليونيْ دولار).
يأتي هذا الإعلان بعد صدور بيان احتجاجي من الناشرين المغاربة يطالبون بصرف مستحقات الكتب التي حصلت على دعم الوزارة، بلا استجابة، علماً أن هناك مستحقات لم تصرف في هذا السياق منذ عامين وفقاً لبلاغ الناشرين. ليس هذا فقط، بل رفعت الوزارة الدعم عن المسرح، رغم أنها أعلنت في تموز/ يوليو الماضي نيّتها تعزيز دعم المسرح وزيادته، لكن يبدو أن الرياح لم تجر كما يشتهي المسرحيون، فالأخبار تُلفت إلى أن دعم المسرح لن يكون أولوية في برامج الوزارة في 2018.
"العربي الجديد" استطلعت آراء بعض المثقّفين حول قضية الدعم الثقافي والأخذ والرد المستمرين حولها، وفي هذا السياق يقول المسرحي الزبير بن بوشتى: "أولاً يجب إثارة انتباه الجميع إلى أن الدعم الذي تخصّصه الدولة المغربية للإبداع الثقافي ليس للمبدعين وإنما للجمهور المستهلك، ذلك أن الدولة تعمد إلى دعم القدرة الشرائية للمواطن حتى يتمكن من استهلاك الثقافة التي تعدّ مكلفة، وقد ترهق ميزانية الطبقة الهشة والمتواضعة الدخل من المجتمع".
ويضيف: "الدعم المقدّم للإنتاجات الإبداعية في مجالات المسرح والكتاب والموسيقى والفنون التشكيلية والكوريغرافيا هو دعم يغطّي المصاريف التي يعجز عن تغطيتها المستهلك الثقافي والذي إلى حد الآن -ويا لها من ظاهرة مؤسفة- لم يتعوّد على تخصيص ميزانية لاقتناء كتاب أو اقتناء تذكرة مسرح أو شراء ألبوم موسيقي أو فيلم أو لوحة تشكيلية".
لذلك فإن الدولة، وفقاً لبن بوشتى "تخصّص دعماً لهذا المنتوج لتغطية الانسحاب المهول للجمهور في المساهمة المادية للرفع من وتيرة الإنتاج الثقافي في بلد يعدّ هذا المنتوج فيه مكلفاً مادياً"، ويتابع: "هذا الدعم الثقافي لا يمكن أن نتحدّث عنه وعن آليات تطويره في غياب قوانين تؤطره. فالدعم ما زال يعطى بناء على مرسوم وزاري، أي أنه ما زال يخضع لمزاجية سياسية توجّهها الحكومة خدمة لبرنامج سياسي يكون آنياً أو ترقيعياً في الغالب يرنو إسكات الاحتجاجات مؤقتاً وامتصاص الغاضبين من المتضرّرين".
يطالب بن بوشتى بقوننة مشاريع الدعم، ويرى أن "تحصين الدعم الثقافي بنصوص قانونية هو المخرج التقني لهذا المأزق المزاجي الذي ظل مسجوناً في إطاره هذا الدعم منذ ولادته مع حكومة التناوب في عهد وزير الثقافة محمد الأشعري".
من جهته، يوضّح الشاعر مراد القادري: "في السّابق، وقبل مَجيء حكُومة الانتقال الديمقراطي في المغرب سنة 1998، وتقلّد الأشعري -وهو الوزير الاشتراكي- حقيبة وزارة الثقافة، كان الدّعم في مجال الثقافة والفنون آليةً لضمان الولاء وتعزيز الريع بوضع ملاعق من ذهب في أفواه المطبّلين والمزمّرين من حاشية المخزن الذي لم يكن يرى في الثقافة سوى وسيلة للتسطيح والابتذال وتتفيه الذوق العام".
ويتابع "مع محمد الأشعري، شرع مفهوم الدعم يأخذ أبعاداً جديدة غير مسبوقة بحكم المنظور الذي تبنّته الحكومة آنئذ للثقافة؛ بما هي استثمار في الإنسان ووسيلة للنهوض به وبذائقته ووجدانه. في هذه الفترة، بدأت البذرة الأولى لسياسة الدعم التي اعتمدتها الدولة لفائدة الثقافة والفنون. وتقوم هذه السياسة على اعتبار الناشطين الثقافيين والفنانين والهيئات الثقافية المستقلة شريكاً أساسياً في صوغ السياسة الثقافية للبلد، وأن من مسؤولية الدولة توفير الظروف المادية والموارد البشرية والبنى التحتية والتشريعات القانونية، من أجل تعزيز الولوج إلى الثقافة والفنون، ودمقرطة الاستفادة من الخبرات الرمزية التي يتيحها الفن والثقافة بالنظر إلى دورهما في التنشئة الاجتماعية وتربية المواطن على قيم الحرية والعدالة والإيمان بالتعدد والاختلاف والمواطنة".
ضمن هذا السياق، يقول القادري: "بدأت في المغرب ورشة كبيرة لمأسسة عملية الدعم الموجه لفائدة الناشطين الثقافيين: أفراداً ومؤسسات، وذلك حتى لا يحصل أي انحراف في مساراته. وقد أسفر هذا الورش الجماعي عن ظهور "دفاتر تحملات" تحدد التزامات كل طرف في البرامج المدعمة: الدولة بصفتها الجهة الراعية، والناشطين الثقافيين والفنانين بصفتهم الأذرع القادرة على تنزيل الرؤية المشتركة للعمل الثقافي على أرض الواقع".
يشرح القادري: "لقد استمر شهر العسل هذا لمدة عقدين من الزمن، تم خلالها إنتاج تراكم مهم في حقل المسرح والموسيقى والفن التشكيلي، وكذا في مجال دعم الكتاب والنشر. وهو ما عاد بالنفع على المجال الثقافي المغربي". أما اليوم، يتابع القادري فـ"يعيش برنامج دعم الثقافة والفنون في المغرب حالة عَطالة منذ مجيء وزير الثقافة الجديد الذي أتصور أن من حقّه أنْ يُعيد النظر في سياسية الدعم التي استمرت لـ20 سنة، كما أنّ من حقه أن يطرح على الحقل الثقافي منظوراً جديداً؛ لكن ليس في غياب "شركاء البارحة" وتهميشهم، بل يجب أن يتم ذلك بمعيّتهم؛ وضمن حوار وطني يتيح لجميع المتدخلين صياغة خارطة طريق جديدة للشأن الثقافي".
يرى القادري أن "توقيف آلية الدعم؛ التي من بين أبرز إيجابياتها أن المشاريع الثقافية والفنية المتبارية كانت تنظر فيها لجان تحكيم مستقلة، يُعتبر تصرّفاً انفرادياً غير موفق. ويتوجّب على وزير الثقافة العدول عنه خدمة للدينامية الثقافية والفنية في المغرب".
ويقول الشاعر صلاح بوسريف من جهته: "بحسب علمي الدعم ما زال موجوداً ومستمراً، لكن سيكون بصيغ أخرى، وهذا أمر يرتبط برؤية الوزير الجديد، الذي رأى أن الدعم، سابقاً، وقعت فيه اختلالات، أدّت إلى ما وقع من توقف لصرف التزامات الوزارة المالية، تجاه الجمعيات الثقافية، والفنية المختلفة". ويتابع "قبل يوم من وصول أسئلة هذا الاستطلاع، علمت أن جمعيات حصلت على 70% من ميزانية الدعم المخصصة لها، حسب ما اقترحته من برامج وأعمال".
ويكمل: "الدعم ليس هبة، أو منّاً وسلوى، من أي كان، إنها حق، وهي مال عام، يصرف في أنشطة عامة، ثم إن الثقافة، ميزانيتها ضعيفة، وهي آخر ميزانية تفكّر فيها الدولة، لأن الدولة تعتبر الثقافة، في كل قطاعاتها غير منتجة، وهذا وهم في تصوّر الدولة، لا الحكومة التي هي خارج سياق الثقافة، بالمرة. إذن، فالدعم، هو نوع من جبر الضرر، وهو تعبير عن هشاشة العمل الثقافي في رؤية الدولة ومفهومها، وليس من حق أي كان أن ينزع هذا الحق، وإلا سنكون في بلاد بلا رأس، أو أمة تكرّس الجهل والتطرف والإخفاق".
يضيف بوسريف: "دعم الثقافة، هو دعم لقيم الجمال، ولقيم المعرفة، وللخيال والعقل، دون فرق، وإذا ما أقدمت الوزارة، أو الحكومة، أو الدولة نفسها، على إلغاء الدعم، أو تقليصه، فهذا سيكون انتهاكاً لكل هذه القيم، واستهتاراً بالإنسان. لا تدرك الدولة أن فشل التعليم، هو من فشل الثقافة، أو تهميشها والاستهانة بها. لأن الرهان على مدرسة دون فكر ومعرفة وخيال وجمال، بتحويل الإنسان إلى منفذ، أو آلة، هو رهان خاسر، ولذلك، فقوة التعليم، من قوة الثقافة، ومن التكوين الثقافي، حتى في الشعب العلمية التي ينبغي أن تدخل إليها الفلسفة والعلوم الإنسانية، فهي الضوء الذي يكشف ضباب الطريق. الدعم، ليس شيئاً ثانوياً، أو أمراً بلا طائل، بل إنه استثمار في الإنسان، وهذا ما لا تريد الدولة أن تفهمه، أو تتغاضى عنه، لأنها لم تغيّر نظّاراتها، وما عندها من قصر النظر".