احتلّت السلطات الفرنسية "الإيالة التونسية" سنة 1881، وكانت حينها "ضعيفة حِسّاً ومعنىً"، على حدّ تعبير شيخ مؤرّخيها ابن أبي الضياف (1804 - 1974). وما لبث هذا الاحتلالُ أن أجرى سلسلةً من التحويرات الجذرية في المنظومة القضائية، إذ ألغى "المجلس الشرعي" الذي كان يتولّى تسيير القضاء والبتَّ في النزاعات، وقصرَ اختصاصه على النوازل الدينية فحسب، ثم أنشأَ المحاكمَ المدنية والجزائية وحتى التجارية. وفي خضمّ هذه الحركية الاستعمارية، صار لزاماً على شباب البلد إتقان اللسان الفرنسي إلى جانب التمكُّن من التعليم التقليدي، في "جامع الزيتونة"، في موادّ التفسير والفقه واللغة والأصول.
من أبرز وجوه هذا الجيل، ظهر محمد السنوسي (1851 - 1900) الذي اختيرَ ليمثّل تونس في "المعرض الدولي العام" الذي انعقد في باريس بين السادس من مايو/ أيار والواحد والثلاثين من أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1889، فسافر إليها وأقام بها قرابة الشهر، من الرابع من يوليو/ تمّوز إلى مطلع أغسطس/ آب من العام نفسه.
زار السنوسي كثيراً من معالم العاصمة الفرنسية وشاهد عياناً مظاهر ازدهارها وتقدّمها. وبعد عودته، كتب "رحلةً" تختلف عمّا كتبه سابِقوه مثل الطهطاوي وابن أبي الضياف وفارس الشدياق، ممن فُتنوا بهذه المدينة. فقد اتّبع أسلوباً مختلفاً تماماً، ركّز من خلاله على المنظور الفقهي والتاريخي للظواهر. وهكذا، كانت "الاستطلاعات الباريسية" نصّاً مبايناً لما سبقها ولَحقها من نصوص.
فمن جهة أولى، غاص الكاتب وهو الفقيه المتضلّع، في خبايا التاريخ الإسلامي ومُتون الفقه ودواوين الأدب والسِّيَر ليقابل بين ما عرفته الحضارة العربية من مظاهر العمران، وما شاهده في باريس من آيات الازدهار المادي. فما من ظاهرةٍ اجتماعية أو سياسية (مثل المكتبات والمسارح والمراقص ونُظم الحُكم ومؤسّسات الاقتصاد) إلّا وعَرضها السنوسي عبر منظور المقارنة والتقابل بين فرنسا والإسلام، ما جعل "الرحلة" بأكملها مراوحةً بين الماضي والحاضر، وتأصيلاً للراهن الغربي في نصوص التاريخ الإسلامي، في مسار يشبه عملية هَضْم للمنجزات الفرنسية من خلال الذاكرة الفقهية: يصالح بين المتناقضات ويقرّب بين المتباعدات، دفاعاً عن مُسلّمة واحدة: لا يتعارض الإسلام البتة مع التقدُّم العلمي ونتائجه، وإن كان يتحفّظ على تبعاته الاجتماعية كالتفكُّك الأسري والتحرُّر الأخلاقي.
ومن جهة ثانية، تضمّن الكتابُ العديد من الآراء الفقهية المنقولة، إلى جانب آراء اجتهادية مُبتَكَرة سلّطها على مظاهر الحداثة التي شاهدها في باريس، التي غَزت العالَم بما فيه بلده تونس، فقد قَرأها كما يجب أن يقرأها فقيهٌ منفتح وعالم واقعيٌّ، متجذّر في عصره المُتحوّل ومطّلعٌ على تغيّراته العميقة، التي لم تكن تخطر على بال أسلافه الفقهاء.
وهكذا، شملت "استطلاعاتُه" كافّة المظاهر المادية للرأسمالية الصاعدة، بحسب رأي ماكسيم رودنسون (2915 - 2004) في كتابه "الإسلام والرأسمالية"؛ مثل الطرق والسكك الحديد والبريد والموانئ وأصول السياسة والنظام الجمهوري والمجالس النيابية والبلدية وما يجري فيها من المداولات، والبورصة والمحاكم والعملة المسكوكة، والمستشفيات ومكاتب المكفوفين والمنازه والمراقص والمسارح (ويحسن التذكير هنا بأن السنوسي اقتبس كلمة "تياترو" لغياب المقابل العربي آنذاك). كما خصّص صفحاتٍ كاملة لوصف "عيد الجمهورية" وما يجري خلاله من استعراضاتٍ عسكرية واحتفالات فخمة.
بإيجاز، لم يترك السنوسي مظهراً من مظاهر التمدُّن إلا وخصّص له فصلاً ممتعاً. ومن أجمل تلك الفصول، وصفُه الدقيق لـ"المعرض الدولي العام" الذي أُقيم للتعريف بالابتكارات التي ظهرت في المستعمرات الفرنسية، وما "أنجزه" الاستعمار فيها، فانتصب رواقٌ للآلات وآخر للفنون الجميلة، وهي السنة التي أُقيم فيها "برج إيفل" الشهير.
وأمّا منهج الكتاب، فيعكس بنية الفكر العربي - الإسلامي إبان النهضة، إذ أجرى مقابلاتٍ كاملة بين منجزات الغرب (فرنسا) وما يناسبها لدى العرب في ماضيهم وحاضرهم. والرهان واحدٌ، هو البرهنة على أنْ لا تعارضَ بين الحداثة وشِرعة الإسلام ومقاصده. وهذا بيت القصيد في استدلاله، فانزلق في ما سماه المفكّر المغربي، كمال عبد اللطيف "المواءمة المستحيلة" بما هي توفيق وربما تلفيقٌ بين مقولات الحداثة القائمة على العقلانية وتحييد البعد الديني، وبين مفاهيم الدين الإسلامي القائمة على مبدأ "الغيب".
وأما لغة "الرحلة"، فقد جهد الكاتب في إجرائها على الوصف الدقيق وتجنّبِ الوسائل الإنشائية كالسجع والجناس، وتحاشي الاقتراض إلّا في النادر حين يغيب المقابلُ الفصيح. ويمكن عدّ هذا الكتاب من أنضج المحاولات في التوليد المعجمي وابتكار الكلمات للدلالة على المنجزات الحديثة، إذ أنطق الضاد بما لم تتعوّد عليه وسَمَّى بها ما لم تُسمّه في تاريخها. وقد نجحت في ذلك العربية فلم تتخلّف عن الإشارة إلى الأشياء في تسارعها.
وبعد مرور أزيد من قرنٍ وعقديْن على صدور الكتاب، من المشروع التساؤل عن غاية المساعدة التي قدّمها له برنار روا، الكاتب العام الفرنسي في تونس آنذاك، وعن بعض الجُمل المنبثّة هنا وهناك؛ مثل حديثه عن "ارتباط مصلحة الفرنسيين بالتونسيين"، وقوله: "لقد أخطأ مَن جعل فرقاً وتبايناً بين مصلحة التونسي ومصلحة الفرنساوي".
وبالنظر إلى التاريخ النضالي للسنوسي، لا يمكن إلا أن نفترض حسن نياته في تصوّره للثقافة الفرنسية وإيمانه بضرورة الاقتباس منها، ولا سيما أنها ستساعد على تطوير "الإيالة التونسية". ولعلّه كان منبهراً وقتها، فلم يغص في عواقب الاستعمار العميقة وآثاره في النظام الاجتماعي والنسيج الثقافي.
وبعد عودته من باريس، ظلّ السنوسي محافظاً على نشاطه الذهني والوطني، وانبرى لانتقاد سلطات الاستعمار التي خانت "رسالتَها"، فتعرّض لسخطها وقمعها حتى باغته الموت في نهاية عقده الرابع. فهل بقيت صورُ باريس "المتمدّنة" ثابتةً في ذهنه وهو يودّع الدنيا، أم أنه حنّ إلى مشاهد البقاع المقدّسة التي زارها أثناء رحلته الحجازية؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صاحب الرحلة الحجازية
لم يعش محمد بن عثمان بن محمّد المهدي السنوسي (الصورة) سوى تسعةٍ وأربعين عاماً، لكنه ترك عشرات المؤلّفات التي تنوّعت بين الأدبي والتاريخي والقانوني والفقهي، وفُقد بعضها. من مؤلّفاته الأدبية: "مجمع الدواوين التونسية" (ألّفه بين 1870 - 1875) الذي جمع فيه قصائد قرابة خمسين شاعراً تونسياً، و"غرر الفرائد بمحاسن الرائد" (1878)، و"درّة العروض" (1875)، و"الرحلة الحجازية" (1883 - 1886)، و"تفتّق الأكمام" (1887).