قبل أن تفرض فرنسا "الحماية" عليه سنة 1912، شكّلت المعرفة بوّابةً لـ "اسكتشاف" المغرب. وكانت "مدرسة الآداب" التي أسّسها الاستعمار الفرنسي في الجزائر العاصمة سنة 1879، تحت إدارة رينييه باسي، المختبر الرئيسي للفكر الكولونيالي حول المغرب العربي.
هكذا، عكف كثيرٌ من الباحثين الفرنسيين على دراسة وبحث القضايا الاجتماعية والثقافية في المغرب، ومنهم عالم الاجتماع إدموند دوتي (1867 - 1926)، الذي جمع بين صفة الباحث الأكاديمي والأداة الاستعمارية المكرّسة لدراسة المغرب والجزائر.
يُعدّ دوتي مؤسّس "أنثروبولوجيا الدين الكولونيالية" في المغرب. كما يُعدّ من أبرز الكتّاب الأجانب الذين اشتغلوا على التعريف بالمغرب، في إطار مهام استطلاعية واستعمارية محدّدة، وهو ما نلمسه في كتابه "مرّاكش" (1905) الذي صدر بالعربية، مؤخّراً، عن "منشورات مرسم" في الرباط، بترجمة جديدة لـ عبد الرحيم حزل.
الكتاب الذي يُعدّ واسطة مؤلّفات دوتي ودراساته التي تقارب 12 عملاً، يبدو ذا ملمح رحلي، يرسم مسار مؤلّفه الذي قاده من الدار البيضاء إلى أبواب مرّاكش. يتكوّن العمل من مقدّمة وثلاثة فصول عن ثلاث قبائل مغربية هي: الشاويّة ودكالة والرحامنة، كما ضمّنه مجموعة كبيرة من الصور التي التقطها بنفسه.
في المقدّمة، يشير المترجم إلى أن طبيعة الرحلة في الكتاب ليست مسترسلة وملتزمة بمسار زمني موصول، "بل هي رحلة متقطّعة في الزمان ومتوزّعة في المكان"، وهو ما يعكسه التداخل في تواريخها. كما أن هناك تقاطعات وتداخلات بين فصول الكتاب (القبائل الثلاث)، بحكم تجميع المؤلّف لها من رحلات، لا رحلة واحدة، تتجلّى أبرزها في عنصر المقارنة بشكل أفقي (بين عادات المغاربة)، ثم مقارنة عمودية (بين المغاربة والجزائريين).
تمثّل المقارنة الأخيرة مفاضلةً صريحة من دوتي، في ما يبدو تمهيداً لإدارة الاحتلال الفرنسي في الجزائر لضمّ المغرب إلى "العالم المتحضّر". يقول في هذا الشأن: "والمغاربة، أو على الأٌقل أولئك الذي نمرّ الآن بمناطقهم، يتناولون طعام الغداء في السوق، وهذا شيء يعتبر معيباً عند الجزائريين".
في الكتاب وصف دقيق لأحوال الناس ومسارات البلاد وتضاريسها ومناخها وتربتها ولغاتها وإخبار بالتاريخ وبالمكوّنات البشرية والتنظيمات الاجتماعية الخاصّة. كما يتناول عدداً من العادات والتقاليد الثقافية والرمزية، ذات علاقة باللباس والحلي واللعب. لم يتوقّف عند حدود العادات والتقاليد والظواهر الاجتماعية المعروفة والجارية في تواليف كتابه، إنمّا تقصّى حتى الجزئيات الفيزيولوجية لكل منطقة بشكل منفصل.
يشير المترجم، في مقدّمته، إلى أن العمل "جزء أوّل من كتاب بهذا الاسم نفسه"، غير أن دوتي لم ينجز الجزء الثاني. فقد توفّي الرجل في باريس وهو يهمّ ببدء رحلة جديدة إلى مرّاكش.
اقرأ أيضاً: رحلة الحج: جغرافيا المكان والروح