يبحث كتاب "الكل يكذب.. كيف تجيب الإنترنت عن سؤال من نحن؟" في تأثير البيانات الضخمة التي وفّرتها ثورة المعلومات على حياة الناس؛ حيث ينطلق مؤلّفه البريطاني سيث ستيفنز - ديفيدويتز من سؤال: لماذا يكذب الناس في الحياة العامة؟ ومقابل ذلك يرى أن سلوكهم على شبكة الإنترنت يشير إلى توجّهاتهم ومشاعرهم الحقيقية التي لا يريدون لها أن تُعرف، وأن تظلّ طي الكتمان.
بكل وضوح، يُخبرنا المؤلّف في صفحات الكتاب، الصادر حديثاً عن "دار بلومزبيري" أن الكلّ يكذب. ولكن عند "غوغل" الخبر اليقين، ويتساءل: هل أصبح هذا الأخير ونظائره من محرّكات البحث كرسيَّ الاعتراف الحديث الذي يسرُّ إليه البشر طائعين بما يخفونه من مشاعر حقيقية؟ يغوص العمل في أعماق النفس البشرية الحديثة ليجيب على ذلك السؤال، متوسّلاً بالبيانات التي جمعها من محرّكات البحث المختلفة.
سلطة البيانات
يتكوّن الكتاب من ثلاثة أجزاء ومقدّمة وخاتمة، يتناول كلُّ جزء منها عنواناً شاملاً يأتي تحته عدد من الموضوعات التي تغطّي الفكرة الأساسية للعنوان؛ ففي الجزء الأول، الذي يحمل عنوان "البيانات ضخمة وصغيرة"، يشرح المؤلّف المصطلحات، ويوفّر معلومات عن كل مصطلح تعين القارئ على فهم الموضوع فهماً شاملاً.
وفي الجزء الثاني، الذي يحمل عنوان "سلطة أو قوّة البيانات الضخمة"، يُقدّم الكتاب الكثير عن مفاهيم مثل الجنس والكراهية والغيرة وغيرها. أمّا الجزء الأخير، فيتطرّق إلى ما يجب علينا أن نعيه ونحن نتعامل مع البيانات، لأنها قد يتمّ استخدامها بطريقة يُمكن أن تؤذي أصحابها. وهنا يورد المؤلّف أمثلة كثيرة لذلك، خاصة عندما تصبح هذه البيانات الضخمة متاحة للحكومات التي يمكن أن تنطلق منها لقمع أصحابها، أو الشركات التي تستغلها لأغراض ربحية لا تراعي منفعة من جمعت عنهم تلك البيانات.
وبما أن الجميع يكذبون، أو على الأقل لا يروون القصة الكاملة أو الحقيقية في حياتهم اليومية، خاصة عندما لا يراهم أحد، يحاول الكتاب فضح بعض الحقائق وراء طلبات بحث البيانات الضخمة في "غوغل"، من خلال تحليل الاتجاهات والأنماط وفهم تفضيلات الأشخاص وعادات البحث.
يسعى سيث ستيفنز- ديفيدويتز إلى تقديم إجابةٍ عن هذا السؤال الكبير، من خلال الغوص في شبكة الإنترنت والبيانات الضخمة التي توفّرها عن أنشطة الملايين بل المليارات من مستخدميها. فالكتاب، بهذا المعنى، عبارة عن عرض واضح لبعض الثمار المبكّرة لعلم "البيانات الضخمة".
بحث في غوغل وعنه
المصدر الأول الذي اعتمد عليه المؤلّف في أطروحته هو مقياس "اتجاهات غوغل" الذي يسجّل التردّد النسبي لعمليات بحث معيّنة في أماكن مختلفة وفي أوقات مختلفة. وقد أضاف إليه مقاييس أخرى مثل "غوغل آدوردز" الذي يُسجّل العدد الفعلي لعمليات البحث، و"ويكيبيديا"، وفيسبوك، ثم "بورن هوب"، وهو واحد من أكبر المواقع الإباحية في العالم. وهنا سيحصل على مجموعة كاملة من البيانات عن سلوك الناس على هذه المواقع. وإلى جانب تلك المواقع قام المؤلف بتجميع العديد من المواقع الأخرى التي ستعينه في مهمّته، بما في ذلك مواقع النازيّين الجدد.
يتوسّع الكتاب ليتناول مواضيع عديدة؛ مثل الانتخابات والعنصرية والجنس، لكنه يُخبرنا أننا نتشارك في الحقيقة المزيد من المعلومات الخاصّة مع محرّكات البحث أكثر ممّا نتشاركها مع أصدقائنا وزملائنا. ويستكشف في فصول الكتاب اتجاهات البيانات الضخمة التي تُظهر أنّنا كثيراً ما نكذب، أو على الأقل نتجنّب سرد القصة الكاملة لحياتنا.
يحلّل المؤلّف الأنماط والاتجاهات التي تساعد في إظهار تفضيلات الأشخاص وعاداتهم عند استخدام محرّكات البحث، حيث يبدأ من خلال تعريفنا بالبيانات الضخمة والأفكار الكبيرة التي يمكن أن تدعمها.
ويعرّف المؤلّف البيانات الضخمة بأنها تشير إلى كمّيات كبيرة من البيانات التي لا يُمكن فهمها إلّا باستخدام الطاقة الحسابية. ويضيف أن العديد من الأشخاص يستخدمون المفاهيم البديهية لعلوم البيانات يومياً، من دون أن يدركوا ذلك، بيد أنه لا يمكن إثبات تنبؤاتنا ومشاعرنا الداخلية إلا عندما نستخدم البيانات بشكل صحيح.
ويذهب إلى أن الناس يُدخلون طلباتهم في محرّكات البحث دون أن يشاهدها أحد، وهذا يعني أن المعلومات التي نحصل عليها من البيانات الضخمة لا تكذب، على عكس المعلومات من الدراسات الاستقصائية والدراسات الأخرى.
أميركا وعنصريتها الحديثة
يحدثنا المؤلف أن دراسة البيانات الضخمة وتوظيفها بالطريقة المثلى كشفت له عن أشياء كثيرة، فقد توصل عبرها إلى أن العنصرية لا تزال حيّة في قطاعات كبيرة في الولايات المتحدة الأميركية. مثلاً، من خلال استخدام مقياس "اتجاهات غوغل" يؤكد المؤلف وبشكل جريء أن التوجهات العنصرية في أميركا كانت واضحة في أعقاب الانتخابات الرئاسية عام 2008 التي أتت بباراك أوباما إلى البيت الأبيض، ونمت أكثر أثناء انتخابات 2016 التي وضعت الرئيس دونالد ترامب على سدّة الحكم.
وقد استخدم المؤلف مقاربات جغرافية أطلق عليها "خريطة التمثيل العنصري"، ووضّح فيها أن الأشخاص في المناطق التي دعمت ترامب إلى حد كبير، قاموا بأكثر عمليات البحث عن كلمة "زنجي".
وأشار المؤلف إلى أنه لاحظ أن معظم المصادر التقليدية علقت بعد انتخاب أوباما على ما أسمته "أميركا ما بعد العنصرية"، لكنه أضاف أن هؤلاء المعلّقين لا يمكن أن يكونوا بعدوا كثيراً عن الحقيقة. ويقول إن معرفته بأميركا العنصرية هذه تنبع من الاتجاهات التي لاحظها في بيانات محرك البحث غوغل، مضيفاً: "كانت هناك ظلمة وكراهية، بيد أنها لم تكن حاضرة في المصادر التقليدية".
أبعِدوها عن الحكومات
بعد أن كشف المؤلف ما يمكن تسميته بقوة وسطوة البيانات الضخمة، فإنه يدعونا للتعامل معها بشيء من الحذر، فثمة خطر منها، يمكن أن ينبع من إساءة استخدامها. يؤكّد هنا أنه من الخطير أن تحصل الحكومات أو الشركات على الكثير من البيانات لأنها ربما توفر لها وسيلة للقمع. ويذكرنا بالأزمة التي كان بطلها فيسبوك بسبب علاقته الحميمة مع شركة "كامبريدج أناليتيكا"؛ الشركة التي أدينت بتسريبها لبيانات ملايين المستخدمين لفائدة المرشح الجمهوري دونالد ترامب والتي يعتقد على نطاق واسع أنها حملته إلى البيت الأبيض.