لماذا لم تتحوّل الترجمة إلى مهنة؟ سؤال أساسي تجدر مناقشته مع بروز العديد من المشاريع على مستوى الأفراد والمؤسّسات في البلاد العربية خلال العقود الأخيرة، في ظلّ غيابٍ واضحٍ للتشريعات الناظمة لعملها، والتي تفصل في الاختلاف أو النزاع بين المشتغلين فيها، وكذلك النقابات التي يمكن أن تضمن حقوقهم وتصونها.
إلى اليوم، لم يجر تأطير استراتيجية عربية واحدة حول الاحتياجات التي تفرضها العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مجال الترجمة، وظلّت غالبية الترجمات، وإن اتّسم بعضها بالإبداع، محكومةً إلى خيارات عشوائية، ولم تغطّ العديد من الاختصاصات العلمية والتربوية والإنسانية، خصوصاً تلك التي تسارعت في تطوّرها مؤخراً.
كانت هذه الخلفية حاضرةً في ندوة بعنوان "الترجمة رسالة سلام"، أُقيمت في "مؤسّسة عبد الحميد شومان" بعمّان مساء أول أمس الإثنين، بالاشتراك مع "جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي"؛ إذ لم تغب عن أوراق المشاركين فيها الإشارة إلى افتقاد الإرادتين السياسية والثقافية في ما يخصّ المشهد الترجمي العربي.
الورقة الأولى قدّمها المترجم والشاعر الأردني وليد السويركي بعنوان "الترجمة الأدبية جسراً للتواصل والتقريب بين الثقافات والأمم: تأمُّلات نقدية"، وأشار فيها إلى أنه يُترجم اليوم "في عالم تحكمه العولمة، وفي حقبةٍ لا تزال تشهد آثار التجربة الاستعمارية الماضية، إضافةً إلى أشكال جديدة من الهيمنة الثقافية والأيديولوجية والاقتصادية"، مضيفاً: "الترجمة ليست دائماً فعلاً تقنياً محايداً أو ممارسة لغوية محضة، وهي لا تحدث خارج السياق الثقافي والتاريخي، أو خارج علاقات القوّة".
العلاقة مع المركزية الغربية كانت من أبرز النقاط التي لفت إليها المحاضر، متوقّفاً عند تأثيراتها على الأدب من وحي كتاب "جمهورية الآداب العالمية" للباحثة الفرنسية باسكال كازانوفا التي ركّزت فيه على الصراعات التي تشهدها ساحة الأدب في العالم بين مختلف الكتّاب، بمن فيهم أبناء المستعمرات السابقة، سواء كتبوا بلغتهم الأصلية أو بلغة المستعمِر السابق، من أجل نيل الاعتراف.
حول العنف الذي تمارسه الترجمة في المركز، عاد السويركي إلى القدّيس جيروم، شفيع المترجمين في الثقافة الغربية ـ الذي استخدم في القرن الرابع الميلادي لغة الفاتحين في وصف الترجمة، مشدّداً على ضرورة أن يُقاد النص الأجنبي أسيراً إلى اللغة الهدف، وبدلاً من أن يتقيّد المترجم بالأصل، فإنه يتملّكه ويسيطر عليه، وهذه الرواية، يقول المتحدّث، تستبطن تفوُّق اللغة الهدف وتجعل الترجمة ساحة حرب؛ حيث ثمّة غالب ومغلوب.
وأشار مترجم كتاب "أساتذة اليأس: النزعة العدمية في الأدب الأوروبي" لـ نانسي هيوستن، إلى أن هذا التصوّر يخترق تاريخ الترجمة في الغرب، وفي فرنسا خصوصاً، منذ العصور القديمة حتى اليوم، وإن تعرّض إلى نقدٍ من الرومانطيقيّين الألمان في القرن الثامن عشر.
وعن التساؤل الأساسي الذي تطرحه الندوة حول دور الترجمة في التقريب بين الشعوب، رأى أن السبيل إلى ذلك يتمّثل في الخروج من فخ التمركز على الذات والتحرّر من التحيّزات الأيديولوجية ومن نزعة الميل إلى الهيمنة وأوهام التفوُّق والتعصّب اللغوي.
الحديث عن غياب المظلّة المؤسّسية التي تنظّم عملية الترجمة في معظم البلدان العربية، كان محور ورقة الأكاديمي والباحث الأردني جهاد حمدان؛ "الترجمة في الأردن: واقع وآفاق"؛ حيث تطرّق بدوره إلى العوائق الكبرى المتمثّلة في تدنّي كفاءات الخرّيجين الجامعيّين المشتغلين في هذا الاختصاص الذي لا يتيح تدريباً ميدانياً كافياً لتمكينهم في سوق العمل.
كما توقّف عند دور الأكاديميات والهيئات المتخصّصة في هذا الإطار، لكنه خلط بين الترجمة والتعريب في تعداد البيانات والمعطيات المتوفّرة وانعكاساتها. فرغم العلاقة الوثيقة بينهما، إلّا أن الترجمة تندرج ضمن رؤية الدولة وتوجّهاتها وما تمليه مشاريعها التنموية والإدارية والسياسية من نقل معارف وعلوم وخبرات، بينما التعريب يعني إحلالاً للغة العربية في التعليم محلّ اللغات الأجنبية، وإدخال مصطلحات جديدة عليها بشكل أساسي.
وعزا حمدان فشل المجامع العلمية في البلدان العربية، ومنها مجمع اللغة العربية الأردني، الذي تأسّس وفق أهداف طموحة جدّاً لم يتحقّق أغلبها، إلى شحّ الموارد المالية وعدم تفعيل دوره، دون أن يُناقش مخرجاته في الترجمة، والتي لا تقتصر مشكلتها عند إصداره ثلاثة عشر مرجعاً جامعياً فقط كما أوضح في ورقته، بل تتعدّاها إلى ضعف محتواها المترجَم وعدم دقّتها، والتي صدرت ضمن خطة للتعريب توقّفت في الأردن لأسباب عديدة.
لكن أبرز ما خلص إليه المحاضر يتمثّل في ضرورة الاعتراف بالترجمة كمهنة لها متطلّباتها العلمية والأخلاقية، وتحسين مناهج الترجمة وتطويرها، وتشجيع الجامعات العربية والأردنية على إنشاء مراكز للترجمة، وإنشاء نقابة ترعى شؤون مهنة الترجمة والعاملين فيها.
من جهتها، أضاءت الأكاديمية والباحثة حنان الفيّاض، المسؤولة الإعلامية في "جائزة حمد للترجمة"، على تاريخ الترجمة من "بيت الحكمة" إلى مدرسة الألسن، وكيف أنها شكّلت نافذة للثقافة العربية على العالم تتلمّس من خلالها المعرفة أينما وُجدت.
ثم تناولت الرؤية العامّة التي تحكم الجائزة منذ تأسيسها عام 2011، مشيرةً إلى وجود ثابت يتعلّق باللغة الإنكليزية ومتحوّل يتمثّل في اختيار لغة ثانية تتغيّر كل دورة، حيث كانت التركية لغة العام الأول، ثم الإسبانية فالفرنسية فالألمانية فالروسية.
وأوضحت أن للجائزة أهدافاً عديدة منها إثراء المكتبة العربية بأعمال مهمّة من ثقافات العالم وآدابه وفنونه وعلومه، وإثراء التراث العالمي بإبداعات الثقافة العربية والإسلامية، والإسهام في رفع مستوى الترجمة على أسس الجودة والدقّة والقيمة المعرفية والفكرية.