يشكل مفهوم الفعل الاجتماعي حجر زاوية في الدراسات التي نطلق عليها تسمية "العلوم الاجتماعية والإنسانية". فمع أن الإنسان الفرد لا يوجد كإنسان إلا في المجتمع، إلا أن المجتمع بدوره ليس مستقلاً عن الأفراد الذين يتكوّن منهم، والذين يصنعون من خلال أفعالهم وتفاعلاتهم مادة الظواهر والسيرورات والتغيّرات التي تعكف العلوم الاجتماعية والإنسانية على دراستها.
قديماً، طرح الفلاسفة تعريفاً للإنسان من خلال القول إن الإنسان حيوان عاقل. يشير هذا التعريف شديد الاختصار إلى حقيقتين عظيمتين: الأولى أن الإنسان جزء من الطبيعة، فهو جسم وكائن حي مثل غيره من الأجسام والكائنات الحية التي تدرسها علوم الطبيعة (الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء وغيرها). ولكن الإنسان ليس مجرّد جسم حي، بل إن له نفساً وعقلاً وفكراً وحياة أخلاقية واجتماعية تميزه عن غيره من الكائنات. وهذا بالتحديد ما يجعل الإنسان موضوعاً قابلاً للدرس من قبل علوم تختص به تحديداً: تلك هي العلوم الاجتماعية والإنسانية.
ولكن السؤال المحيّر الذي أقضّ مضاجع الفلاسفة والحكماء وعلماء النفس والاجتماع ولا يزال، هو العلاقة بين هذين الصعيدين: الصعيد الطبيعي والصعيد العقلي. يشكل التقابل بين هذين الصعيدين وجهاً آخر لمعضلات فلسفية قديمة حول العلاقة بين النفس والجسد، والمادة والروح، والطبيعة والمجتمع. لم تقم هذه الأزواج المتضادة من المفاهيم بإرساء أسس الانقسامات الفلسفية المشهورة بين المادية والمثالية، والعقلانية والتجريبية، وغيرها من المذاهب الفلسفية المتعارضة فحسب، بل إنها وفي سياق العلوم الاجتماعية، ساهمت في إحداث شروخات في مناهج البحث المتبعة في هذه العلوم.
انقسم صف الفلاسفة ما بين ماديين لا يرون في الإنسان ما يتجاور المجريات الفيزيائية - الكيميائية - البيولوجية البحتة، وفلاسفة مثاليين يرون أن في الإنسان جانباً روحياً لا يمكن اختزاله للمادة بأي صورة من الصور.
كما اختلف الباحثون الاجتماعيون بشأن مناهج البحث، فكان فمنهم السلوكيون والتجريبيون وأنصار الوضعية المنطقية الذين عكفوا على دراسة ما هو محسوس وملموس وقابل للقياس والملاحظة في حياة الإنسان النفسية والاجتماعية، وكان منهم أنصار المدرسة الـتأويلية (الهرمنطيقا)، وكثير من علماء الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا الذين نظروا إلى الإنسان بوصفه كائناً يعيش في عالم من المعاني والأهداف والرموز التي تقبع خلف السلوكيات والإنتاجات المادية القابلة للقياس وللملاحظة.
إذا نحن رغبنا بالوقوف على حقيقة السؤال المحيّر حول العلاقة بين الطبيعي (المادي، المحسوس، الملموس) والنفسي -الاجتماعي - المعنوي في حياة الإنسان، فليس هناك ما هو أفضل من دراسة مفهوم الفعل الاجتماعي. فكما قالت الفيلسوفة البريطانية إليزابيث آنسكوم في مقالة شهيرة حول مفهوم السببية والحتمية، تتكون معظم أفعال البشر من (أو تشتمل على) حركات جسمانية، كما هو بيِّن بالإشارة إلى أفعال مثل: انتخب، تحدّث، كتب، غنى، رسم، انتقم، أكل، تزوّج، ربّى، عمل، دافع، انتقل، وكثير غيرها. يتبع من ذلك (ما هو غني عن البرهان على أي حال) أن أفعال الإنسان هي بمعنى من المعاني أحداث طبيعية مادية قابلة للملاحظة، وبالتالي قابلة للدراسة من خلال العلوم الطبيعية بمناهجها "العلمية". ولكن، من الناحية الأخرى لا يمكن القول إن أفعال الإنسان مجرّد حركات جسمانية. فالحركات الجسمانية بمعزل عن النوايا والمقاصد والأفكار والمشاعر والمفاهيم لا معنى لها، وبوسع الروبوت المبرمج أن يقوم بمثلها دون أن يراودنا شك بخصوص قيام الروبوت بفعل ما.
لهذا التفريق بين الجانبين (الجسماني - الطبيعي من جهة، والمعنوي - الإنساني من جهة أخرى) تاريخ طويل. ولربما يعود شرف اكتشافه وصياغته بلغة فلسفية واضحة المعنى إلى سقراط في المحاورة الأفلاطونية المعروفة باسم "فيدون" (Phedo). في هذه المحاورة نجد سقراط جالساً في غرفة سجنه محاطاً ببعض تلامذته ومريديه، يحاورهم في خلود الروح، ويقصّ عليهم شيئاً من مراحل تطوّره الفكري بالإشارة إلى مرحلة سابقة ظن فيها أنه وجد ضالته في فلسفة أناكساغورس. سياق المحاورة (بالطبع) سياق إنساني اجتماعي سياسي صرف: فقد حكمت عليه المدينة التي ينتمي إليها كمواطن بالإعدام بتهمة إفساد أخلاق الشباب، ومن ثم أودع السجن بانتظار تنفيد الحكم.
ومع أن بعض أصدقائه من ذوي النفوذ قد عرضوا عليه الهرب إلى مدينة أخرى يعيش فيها آمناً، إلا أنه رفض ذلك، وها هو الآن جالس في السجن (بمحض إرادته) ينتظر النهاية. لا بد أن مكوثه في السجن أمر له معنى، وله ما يفسره من العلل والأسباب.